في روايته الجديدة "كل الألعاب للتسلية"، يُوسّع الكاتب والسيناريست المصري عبد الرحيم كمال دلالات اللعب، والألعاب، والألاعيب أيضاً، لتمتد إلى كل العلاقات والظواهر والموجودات والبدايات والنهايات، خارج نطاق التسلية المشار إليه في عنوان الرواية، وإن كانت تسلية جادة.
ما من شيء أو حدث أو موقف في يومياتنا الملتبسة المرتبكة الشائكة إلّا وفيه لعب كثير، بحدّ ما يرى المؤلف عبد الرحيم كمال، الفائز مؤخّراً بجائزة الدولة للتفوّق في الآداب، في روايته الجديدة، الصادرة حديثاً عن دار العين للنشر في القاهرة (2024).
وعلينا دائماً أن نتوقع هذا اللعب، ونستعد له، على غموضه أحياناً، وغرائبيته.
ورغم خطورة اللعب، ومأساويته، فإنه لا يخلو من بهجة "اللعب متعة الإنسان القديمة الجديدة".
والأمر كله "ليس اختياريّاً على ما يبدو، فالجميع يلعب. وكل ما عليك هو الامتثال والتهيُّؤ كل مرّة، كأنك تلعب من جديد، دون شكوى أو ألم".
وهذا اللعب المثير ليس غايته الوحيدة التسلية بطبيعة الحال، إلّا إذا كان الوجود كله لهواً والكون عبثاً والحياة سراباً والحقيقة وهماً.
هو لعب مُحْكَم ومُهَندَسٌ ومنضبط إذا جاز التعبير، تنظّمه قواعد وقوانين ولوائح وشروط، وتتوقف عليه مصائر أفراد وجماعات، وربما شعوب بأكملها، وليس فقط أبطال الرواية المبتكرة المدهشة.
التاريخ والسخرية
وبالتوازي مع الاستغراق في استقصاء اللعب، أو فلسفة اللعب بتعبير أدق، عبر التاريخ، بقدر وافٍ من التأمّل والسخرية، فإن المؤلف يدير أوراق روايته أيضاً بوصفها لعبة جمالية بحدّ ذاتها، يمتزج فيها الواقع والخيال والحلم والأسطورة، على نحو محفّز وفريد ومغاير للسائد في المشهد الروائي.
أما التاريخ، ببساطة، فإن المؤلف؛ أو الراوي العليم، يستحضره لكي يثبت فكرته الأساسية، وهي أن اللعب هو الحاكم الأول والأخير، الكائن في كل زمان ومكان.
وأما السخرية، فإنها الغالبة، وذلك لكي يمرّر الراوي نظرته الافتراضية، وهي أن هذه الألعاب كلها، بما فيها الألعاب القاسية والمرعبة والمُهلكة، هي فقط من أجل التسلية، وإرضاء غرور القوى المتسلطة، والأنوات الفوقية.
هذه التسلية، كما يصفها، هي تسلية "ليس في قانونها ممنوع أو حرام أو غير لائق، بل كل شيء متاح، حتى الدماء والأموال والأرواح، في هذا العالم المجنون".
وهنا، تستوي لدى الراوي كل الألعاب، الفعلية والمجازية والترميزية.
ومن ثم، فإن كرة القدم والتنس والبلياردو والدومينو والشطرنج والكوتشينة ومصارعة الثيران والبلاي ستيشان، شأنها شأن ألاعيب السياسة والحكم، وألعاب الدمار والخطط الحربية وإلقاء القنابل الموجّهة من الطائرات التي تُفني مئات الألوف من البشر بضغطة زر. كما تستوي مع الألعاب السادية للأطفال الأشرار المرضى، الذين استبدلوا بالبراءة التعطشَ إلى القتل اللامتناهي.
الممالقون والمعارضون
تتيح تقنية الراوي العليم، المشحونة بخبرات المؤلف المعرفية وثقافته المتشعبة، إفراد عبارات وفقرات وربما صفحات من مساحة الرواية (240 صفحة)، للسرد المعلوماتي والساخر عن اللعب وفلسفته وتاريخه المتجذر منذ القدم، وامتداد سطوته إلى مختلف المجالات وسائر الأمكنة.
ومن ذلك مثلاً، ما يرويه من حكايات مريرة عن بعض الألعاب الدموية، إذ كان يُلقى فيها بالعبد المارق في حلبة واسعة، ويُدخلون عليه الأسد، بينما يجلس الكبار يتسلّون بالإنسان في مواجهة الوحش. هي معركة محسومة، لكنّ "المتعة تأتي من السادية المفرطة".
ومن ذلك أيضاً ما يستدعيه الراوي من الهدف غير الشرعي الذي أحرزه لاعب كرة القدم الأرجنتيني مارادونا بيده في مرمى إنكلترا في كأس العالم عام 1986، في أعقاب أزمة الحرب بين المملكة البريطانية والأرجنتين حول جزر فوكلاند.
وكأنّ هذه اليد تُمثّل يد الاعتراض والمقاومة ورفض الطاعة والانصياع.
لعبة الكتابة
كيف تُقدّم الرواية لعبتها الخاصة من خلال الواقع المنفتح على التخييل والأحلام والأساطير؟ وكيف يُهندس المؤلفُ، من خلال الراوي العليم والشخصيات القليلة التي يحرّكها، جميعَ أوراق اللعب في عمله الطفولي التلقائي، المشغول فنيّاً وذهنيّاً بعناية واقتدار ودأب في الآن ذاته؟
تنتهي الرواية بلعبة جماعية يلعبها الجميع مع الدنيا بشكل دائري دون انتهاء "المواطنون والمواطنات في علبهم الصغيرة المغلقة، يلعبون كل نهار وليلة لعبة واحدة مكرّرة. هي لعبة الاستغماية المعروفة"...
وهذه، باختصار، ثيمة الرواية كلها، بفصولها الثلاثة: "لا تتبعني فالموت طريقي"، "لا تزال لديك فرصة"، "بين بين". فالشخوص المحوريون في النص الإبداعي يلعبون مع بعضهم بعضاً، ومع الدنيا، ألعاباً متشابكة، غير معروف كيف بدأت، ولا متى ستنتهي.
إنها ليست مجرد حكاية بضع شخصيات تتجاور وتتحاور وتتصارع في مكان ضيق كما يبدو ظاهريّاً، ولكنها مرآة لأحوال البشر جميعاً المنغمسين في اللعب منذ الأزل، والمستمرين فيه إلى الأبد.
في هذا الواقع الفانتازي، يتلقّى المؤلف الشهير حازم صفوت، مكالمة مباغِتة من سامر بك الشرقاوي، صاحب الصفة الوظيفية العليا في جهة أمنية سيادية. ويطلب منه سامر، أو يأمره، بأن يحضر إلى مكتبه، ليملي عليه رغبته في أن يساعده حازم صفوت أو ينوب عنه في كتابة مذكراته، أو كتابة رواية يوقّعها سامر باسمه.
وحين يرفض حازم، يهدّده سامر بكشف فضائحه من خلال ملف يتضمن كل مكالماته ورسائله وأسراره الخاصه ومغامراته النسائية المرفوضة عائليّاً ومجتمعيّاً بالضرورة، فيضطر حازم إلى الموافقة.
وتتحول جلسات الحكي (ما يحكيه سامر)، والكتابة (ما يكتبه حازم) في الغرفة الضيّقة المغلقة، التي يُـقتاد إليها حازم معصوب العينين، إلى مسرح للأحداث واللعب والكذب أيضاً. فلا سامر يحكي الحقيقة عن نفسه وعائلته ووظيفته ومهامه الغليظة والقذرة، ولا حازم يكتب ما يصدّقه ويؤمن به ويرى فيه قيمة أدبية. ويشعر كلاهما بأنه مسجون في أفكاره، مثلما أنه مسجون في الغرفة الضيّقة.
قنص التفاصيل
وفي حياتهم الأخرى، تكثر الشائعات حول أسباب اختفائهم، فيجري الاتفاق على أن يتولّى حازم صفوت نسج قصة تفسّر للرأي العام اختفاءهم، ومن ثم عودتهم من جديد إلى الحياة، على أن تكون هذه الحكاية قابلة لأن يصدّقها "الترند"، تجنّباً للفضائح.
ويعود بعدها كل شيء إلى سيرته الأولى، ويشرع حازم في كتابة رواية جديدة له، يقول في مقدمتها "الحياة مزيج من اللعب القاتل واللهو الحزين".
ولعلّ رهان عبد الرحيم كمال الأول في روايته، كسيناريست محنّك، ينبني على الغوص في التفاصيل الدقيقة لكل شيء، وقنصها. تفاصيل الشخصيات، والأحداث، والسرد، والحوار، والوصف. تفاصيل الألعاب الحقيقية، والمجازية، والرمزية. وذلك كله من أجل تتبع الحكمة والقيمة والدلالة الورائية والتأويلات الكامنة، خلف ما يجري على السطح، من مواقف وعلاقات وصراعات.
هكذا هي الكتابة، أكثر من لعبة مسلية، بل إنها كما يقول حازم صفوت في الختام "أمر شاقّ جدّاً، أمر أكثر صعوبة من القفز من الدور المائة وخمسين!".