كعادته هادئاً ومتواضعاً تحدّث الكاتب المصري الدكتور محمد المخزنجي إلى الباحثة الإيطالية ميلا فانتينيلي. انعقدت هذه الجلسة في شتاء 2023، ودار النقاش حول مفهوم النقد البيئي في كتابيه "حيوانات أيامنا" و"صياد النسيم"، وهو موضوع أطروحة الماجستير التي كانت تعدّها ميلا حينها في جامعة القلب المقدس الكاثوليكية في ميلانو، وانتهت من مناقشتها في آذار (مارس) الفائت.
لم تدخل الباحثة الإيطالية عالم كتابات المخزنجي قبل الشروع في إعداد أطروحتها العلمية، لكن إشارة من أستاذها المصري إلى منتوج الأديب المصري البارز، كانت كفيلة لأن تختار أعماله نموذجاً رئيسياً في أطروحتها.
تقول فانتينيلي لـ"النهار العربي": "بعد ترشيح أستاذي بالجامعة وائل فاروق، قرأت "حيوانات أيامنا" و"صياد النسيم"، ومن ثم استطيع القول إنني وقعت في حب كتابات المخزنجي وأفكاره وطريقته في السرد".
الكاتب الذي ينأى بنفسه عادة عن دائرة الضوء، اختار التخفف من الحضور الإعلامي الدائم، لكنّ إنتاجه الأدبي والعلمي، صحافياً بارعاً وحكاءً رائقاً، كفيل بأن يجعله محط الأنظار، فهو الطبيب النفساني ابن مدينة المنصورة الرابضة على ضفاف النيل شمالي مصر؛ حيث نشأ ودرس الطب ولم يغادرها إلى القاهرة إلا في عمر 38 عاماً، فطبعت المنصورة على روحه أعظم الأثر.
عمل المخزنجي لفترة طويلة محرراً علمياً وثقافياً بمجلة "العربي" الكويتية العريقة، وكتب القصة القصيرة ببراعة، وله إنتاج قيّم من الأعمال التي مزج فيها الأدب بالعلم في رصانة وخفة لا يتناقضان، كما وثق تجربته في أوكرانيا عندما كان طالباً للطب إبّان وقوع كارثة مفاعل تشيرنوبل، في كتاب "36 سنة تشيرنوبل: لحظات غرق جزيرة الحوت".
يشار إلى أن مؤلفات المخزنجي لم تحظَ بالانتشار الواسع في إيطاليا، إذ إن أياً من أعماله لم يترجم إلى الإيطالية، لكن يبدو أننا نشهد في هذه الآونة لحظة التفات وتقدير أوروبي وإيطالي خاص إلى منتوج الطبيب والأديب والصحافيّ المصري.
من مناقشة أطروحة الماجستير للباحثة الإيطالية بجامعة القلب المقدس الكاثوليكية في ميلانو
الطريق إلى المخزنجي
في مرحلة مبكرة من حياتها تعلقت ميلا فانتينيلي بالأدب الإيطالي، ثم درست الآداب الأوروبية، لكنها لم تتعرف إلى الأدب العربي إلا في كلية العلوم اللغوية والآداب الأجنبية بجامعة القلب المقدس الكاثوليكية في ميلانو. قرأت حينها ليحيى حقي، والطيب صالح، وتوفيق الحكيم، وبعدما أنهت دراستها في ميلانو، ذهبت إلى الأردن لاستكمال دراسة الأدب العربي، وتعرفت إلى أدب فدوى طوقان، وغسان كنفاني، وزكريا تامر.
جاءت مرحلة إعداد رسالة الماجستير في جامعتها بميلانو؛ كان موضوع الأطروحة عن الأدب البيئي العربي، فتشت ميلا حينها عن نموذج من الأعمال الأدبية العربية تعبر عن القضايا البيئية، وبعد بحث دؤوب رشح أستاذها وائل فاروق أعمال المخزنجي للقراءة، وكانت البداية التي دلفت منها إلى عالم المخزنجي، وتناولت من خلاله البعد البيئي في الأدب العربي.
تقول ميلا إنّ النقد البيئي لا يركّز على الطبيعة فقط، لكنه معنيّ بالقضايا المتشابكة مع محيط بيئتنا، مثل قضية التغير المناخي، إلى جانب عالم الحيوان وعلاقته بالبشر مثلاً، وتشير إلى أن النقد البيئي بصورة عامة عبارة عن مزيج من الأدب والإنسانيات والعلم، كما يعد فرعاً يانعاً من فروع النقد الأدبي، تبلور مع نهاية القرن الماضي، وهو منتوج الحقوق المدنية، وحركات الدعوة للسلام والدفاع عن البيئة في الستينيات.
أيضاً، اطلعت الباحثة الإيطالية على عدد من الأعمال التي تناولت القضايا البيئية في الأدب العربي، مثل المجموعة القصصية "رأيت النخل" لرضوى عاشور، لكنها رأت أن منتوج المخزنجي الأدبي يتقاطع مع المفهوم الذي أرادت أن تناقشه في أطروحتها، إذ كانت تبحث عن أعمال تناقش النقد البيئي من زاوية لها بعد روحي، وتطرح تساؤلات عميقة حول وجودنا.
وفي أطروحتها العلمية، قدّمت ميلاً ملخصاً للعديد من الأعمال العربية التي اهتمت بالأدب البيئي، غير أن العملين الرئيسيين محل النقاش هما: "حيوانات أيامنا" و"صياد النسيم"، وهما مجموعتان قصصيتان للمخزنجي؛ الأولى تجول في عالم الحيوانات، والثانية تركّز على مزيج من القضايا النفسية والبيئية.
الباحثة الإيطالية ميلا فانتينيلي
عالم المخزنجي
ترى فانتينيلي أن اشتغال المخزنجي بمهنة الطب منحه البعد العلمي للأشياء، وهو ما يتضح في أعماله، على سبيل المثال عند النظر إلى المجموعة القصصية "حيوانات أيامنا"، ترى أن لديه اهتماماً واضحاً بالحقيقة العلمية، فلم يصف الحيوانات من منطلق رمزي وخيالي مثل كتاب "كليلة ودمنة"، لكنه وصفها من خلال صفاتها البيولوجية، فتشعر أنه مزج في بوتقة واحدة علم الحيوان مع الإبداع والخيال والإنسان.
في "صياد النسيم" ناقش المخزنجي بعداً آخر غير الذي تناوله في "حيوانات أيامنا"، تشرح ميلا: "في تلك القصة نرى المخزنجي يدخل إلى العالم النفسي للإنسان، وتأثيرات التلوث على البشر ومشاعرهم، وخاصة في القاهرة، كما ناقش العمارة البيئية ومنجز المعماري المصري حسن فتحي".
تتابع: "يؤمن المخزنجي أن الإنسان والحيوان والنبات جزء من شبكة متجانسة وجميعنا يعيش في العالم نفسه، كما ترى تداخل علم الهندسة وعلاقته بالتخفيف من آثار التلوث وارتباط كل ذلك بالعوالم الداخلية للإنسان، ومن هنا أرى أن أفكاره التي يطرحها في أعماله تحمل وجهة نظر مختلفة تماماً عن أي كتب أخرى قرأتها في حياتي على الإطلاق".
في كتاب "حيوانات أيامنا" تجول المخزنجي في عالم الحيوان وربطه بالعوالم الداخلية للإنسان
تحت دائرة الضوء
تعزو الباحثة الإيطالية خفوت انتشار أعمال المخزنجي في إيطاليا وبعض دول أوروبا إلى أن اهتمام صناعة النشر الغربية بالأدب العربي ينحصر في الأعمال التي تعالج قضايا مناطق الهامش، مثل الصحراء والنوبة، أو قضايا الهجرة، وهي وثيقة الصلة باهتمام المواطن الأوروبي، ويمكن أن نرى نموذجاً من هذه الأعمال، مثل رواية "أيام الشمس المشرقة" لميرال الطحاوي.
وترى أيضاً أن الأدب الذي يتناول الشرق له مواصفات خاصة في عيون الأوروبيين، إذ لا بد أن يكون في إطار حدود معينة نمطية، مثل تصوير حياة المدينة الشرقية بثقافتها وموروثها، ويجسد هذه الحالة تماماً أدب نجيب محفوظ ذائع الانتشار في إيطاليا وأوروبا.
تستطرد: "على العكس لم يختر المخزنجي الصورة النمطية، لكن أعماله امتازت بالبعد الروحي العميق والتساؤلات الوجودية حول الذات، إلى جانب مزج الأدب بالعلم، كما أن لمؤلفاته طابعاً إنسانياً عالمياً تجاوز حدود المكان والزمان، وربما تكون هذه الميزة هي التي قلّصت من انتشار أعماله في الغرب، نظراً لوجود هذا النوع من الأعمال الإبداعية في أوروبا، فيأتي التساؤل الغربي: لماذا نقبل هذا النوع الأدبي من كاتب مصري؟".
في مجموعة "صياد النسيم" ناقش المخزنجي قضايا بيئية ونفسية وهندسية
تحمل فانتينيلي على عاتقها الآن مهمة تسليط الضوء على أعمال المخزنجي في إيطاليا وأوروبا، وتقول إنها تعكف على ترجمة المجموعة القصصية "حيوانات أيامنا" إلى اللغة الإيطالية، موضحة أن تحديات الترجمة من العربية إلى الإيطالية تتجسد في أن اللغة العربية تسمح بالاسترسال والسرد الطويل على عكس الإيطالية، وهي لغة تجنح إلى الجمل القصيرة والمكثفة.
تقول: "رغم التحديات التي أوجهها في عملية الترجمة، تمضي الأمور على ما يرام، وفي فترة قريبة سأكون انتهيت من الترجمة، لأبدأ الدخول في مرحلة النشر، ومن ثم صدور العمل الأول للمخزنجي باللغة الإيطالية".