لجين بيطار*
انتظر العالم "مسبار الأمل" العربيّ والإماراتيّ ليمدنا بالمعلومات عن كوكب المريخ، وانتظرنا سنوات لنصل إلى سر عبقريّة جامعة هارفرد، ليمدنا البروفسور العربي والإماراتي بحقيقة هارفرد، بل أميركا.
ودّعت طلبتي في قسم الدراسات الشرق أوسطية، وشاركتهم أمنية أعمل على تحقيقها، ألا وهي إطلاق مساق "إتيكيت الإماراتيين؛ تعوّداً أو تجديداً" في جامعة هارفارد، والذي أطلقته للمرة الأولى في جامعة "بوليتيكنيكو دو ميلان"، رغبة من الطلاب الإيطاليين في التعرف إلى الثقافة الإماراتية، تزامناً ومعرض "إكسبو" عام 2020، وللمرة الثانية في الجامعة الأميركية في دبي.
ولم تمض على هذه الخاطرة أيام معدودة، حتى التقيت البرفسور الإماراتي عبد الخالق عبد الله، فأهداني منشوره الحديث، الذي يرصد تجربته في جامعة هارفرد، مجسدة بمنحة كبير الزملاء الذي وافق عليها، والحمد لله أنّه وافق؛ ليكون لنا نصيب في أن نقرأ كتاب البروفسور العبقري، والمتواضع؛ ذي المعرفة الموسوعية، والمضمون الموضوعي، والدقّة السردية التي تعين القارئ، وتنبّه المتلقّي إلى استنباط الرؤية المستقبلية للعالم، من غير المساس المباشر بالجهات المعنيّة، وبعيداً عن اختراق الذوق الحيائي لشريحة محددة.
كتاب "رحلتي إلى هارفرد" يجسّد حريّة الإنسان الإماراتي؛ فكراً، وثقافة، كما يشير إلى ولادة الحرية السياسية في الإمارات العربية المتحدة، وفي دول الخليج العربي، لما يتضمنه من تصريحات، وتلميحات، وتبنّي مسؤوليات، ومواقف جريئة جداً، وآراء شفّافة، توقعتها أن تحبّر بقلم البروفسور عبد الخالق عبد الله، وتقدّم بريشة زوجه الدكتورة والصديقة العزيزة ريما الصبّان، التي دعاها في متن كتابه "أم خالد"، وصديقة العمر، وصاحبة الكلمة الأخيرة، والنهائية في كلّ قرار حياتيّ، ومفصلي.
علمنا التراث العربيّ درساً، بل مسكوكة فكريّة تطالب المرأة بأن تنتظر من محبوبها ذكرها في مقدمته الطللية وتتبّع أثرها، والتي قد يكون للقصيدة نصيب في أن تعلّق على أستار الكعبة في عصر قبل الإسلام، لتتسلّم الدكتورة ريما الصبّان درع تعديل هذه المتلازمة الذهنيّة، وتبدأ رحلتها مع زوجها إلى هارفرد موثّقة أصدق مقدمة طللية قرأتها في سجلّات العرب، بل جعلتني أهتف بقلبي، وأمنحها صوتي لتعلّق على أستار هارفرد، هنيئاً لك بروفسور عبد الخالق.
أمشي ملكاً... "ففي لحظة من غياب الوعي، لم أدرك قيمة منحة كبير الزملاء"، استوقفتني هذه المقولة؛ بوصف اللاوعي أصدق ما يعبّر فيه الإنسان عن رغباته. ومما لا شكّ فيه أنّ مسيرة الأكاديمي الإماراتي تبرهن أنّ استجابته للفرص الأكاديمية رغبة مرسخة في وعيه، ولا وعيه. إلا أنّ ما عَبَر في لاوعيه ينمّ عن ثقة الإماراتي بإنجازاته في وطنه، الذي حقق مركزاً عالمياً مشرفاً في الشرق، والغرب، لذلك صاغ في ثنايا رحلته: "أمشي ملكاً واثقاً بنفسي كما هي الإمارات واثقة بنفسها". لكنّ التواضع الذهني طغى، وأسس لغة دبلوماسيّة، عبّر بها عن عظمة منحة جامعة هارفرد، وأنا أحترمها.
مَنْ أنتِ يا هارفرد؟ يحصي البروفسور: "خريجو هارفرد يتحكمون في ثلث ثروات العالم". بعد حرب غزّة، انكشف الستار، وبدأت الشعوب العربية تتنبه إلى مصالحها، وتدرك ما يجري في الاقتصاد العالمي، بل توحّدت، للمرّة الأولى، تحت ميثاق التضامن الاجتماعي، فقاطعت ثلث منتجات العالم، ما يفرز أسئلة نودّ توجيهها إلى عبد الخالق عبد الله: هل هذه هي المنتجات التي قصدتها؟ وهل أصحابها خريجو هارفرد؟ وهل هارفرد أُعِدَّتْ لهم؟!
هارفرد، والعباقرة... مَنَحَ الأكاديميّ الإماراتي مفهوم العبقريّة طلابَ هارفرد، من غير تحديد معايير العبقرية، وقبل اللقاء بأي طالب في هارفرد، ذلك أنه ليشير إلى القارئ، بداية، أنّ البروفسور يتحدّث عن هارفرد في المتخيّل الجمعي العربيّ، والشرقي؛ بوصفها ملكة جامعات العالم، بل راود القارئ الشك في أنّه يتحدّث عن أطلال هارفرد، ذلك أنّ البروفسور زار هارفرد وهو طالب. ليتدارك البروفسور المركزية في التفكير، ويخصص لجامعات آسيا الحصة الأوسع في الرؤية المستقبلية الملهمة للجيل الجديد، ومنهما: جامعة سنغافورة الوطنية، وجامعة سيوول في كوريا.
هارفرد، والقطيعة التاريخيّة... جدير بالذكر، بداية، أنّ التاريخ حَدَثٌ ورؤية، ولكن ما جمعه البروفسور عن تاريخ جامعة هارفرد، التي كانت تدعى بنيوتاون، كانت أحداثاً وقعت وسجّلت، للأسف، فبنت تاريخها المخجل؛ بوصفها مركزاً من مراكز العبوديّة، ومأسسة للعنصرية التي أثرت غريزة هتلر فاتبعها. كانت مقراً للتشدد الديني، ومقصلة للتسامح، بل حصناً للانغلاق الفكري، ولكن البروفسور عبد الخالق عبّر عن تعاطفه مع الشعب الأميركي، امتناناً لكرمه معه في رحلته إلى هارفرد، فلم يسلبه شرف تأسيس هارفرد، والذي كان الفضل في بناء أعمدتها الأولى يعود إلى السلطة التشريعية البريطانية، ويقال إنها ما أصبحت هارفرد إلا بإعلان القطيعة التاريخيّة!
عقيدة هارفرد... يحدّثنا الأكاديميّ الإماراتي عن يومه الأوّل في هارفرد بعد أن يعلنها مركزاً فكرياً وعلمياً بُني على مفهوم فصل الدين عن العلم؛ محوراً أساسياً للتقدم العلمي، على حدّ قول فيلسوف العرب أبي العلاء المعريّ قبل ألف عام: "عقول بلا ذقون، وذقون بلا عقول"، ليدهش الدكتور عبد الخالق بعقيدة هارفرد المتضمنة بنود الإحرام حاضرة على مكتبه لحظة دخول هارفرد، والتي سمّاها باللاءات، والتي جعلتني أسرح بقول الرسول (ص): "الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف"، ومن من هذه اللاءات أذكر:
لا يجوز إقامة علاقات مع الأساتذة والموظفين والباحثين والطلاب خارج علاقات العمل، ولا يجوز التحدّث معهم في قضايا شخصية، ولا يجوز إقامة علاقة رومانسية معهم، ولا يجوز الإكثار من الضحك والتنكيت، واحذر من سوء فهم الآخر لك....
الانزياح... يتحوّل خطاب البروفسور تدريجياً، وفي أكثر من موضع من عباقرة هارفرد إلى مجتهديها، لتظهر الطالبة لورين، التي ساعدته في إنجازه مهماته البحثية، والتدريسية ظهوراً يعبّر عن اجتهادها، وحيّويتها، وحسب. ولا أخفي عن القارئ أن بعض الأسئلة التي شاركها البروفسور للقارئ - والتي صدرت عن طلابه في أثناء تدريسه في كليّة كيندي المساق المعنون: الخليج العربي الجديد - تنمّ عن تطاول، بل لا عبقرية في طرحها على الإطلاق، وبعضها الآخر يشير إلى فضول الطالب في التعرّف إلى وجهة نظر بروفسور يعلن الخليج العربيّ مركزاً لصناعة القرار السياسي في منطقة الشرق الأوسط. بل لم ألمس دليلاً منطقياً في هذه الجلسة النقاشية يمنح طلابها لقب عباقرة، إلا نشوة الجلوس على مقاعد هارفرد التي تمدّهم بالثقة المطلقة، أي الطاقة الإيجابية، وهذا مرتكز أساسي في بنية العقل العربيّ، والذي عدّه محمد عابد الجابري السبب الرئيس في تخلّف الفكر العربي، بعدما أطلق عليه مصطلحاً يدعى العرفان الذي يستند إلى الوهم لا المنطق! وقد عبّر الأكاديميّ الإماراتي فقال: "لا سرّ في أي نجاح سوى تعزيز الثقة بالنفس وهذا هو سرّ عبقرية هارفرد".
مسرحيّة قبول الطلاب في هارفرد، والانتخابات الرئاسية الأميركيّة وجهان لعملة واحدة؛ يطلّ الأكاديميّ الإماراتيّ على القارئ بشفافية مطلقة، بل يصرّح بأول معيار للقبول في هارفرد، وهو السبق الوراثي؛ إذ "إنّ هناك أفضلية لقبول أبناء الأغنياء والزعماء وبناتهم، ولأبناء خريجيها السابقين وبناتهم، بخاصة لمن يتبرع لها بسخاء"، من غير استعمال كلمة واسطة أو رشوة، تماماً كظاهرة الرئيسين بوش الأب والابن، ولم يذكر البروفسور هذا المثال! لا بل تحدد نسب الجنسيات التي يحقّ لها الانضمام إلى هارفرد، وهذه ظاهرة تنفرد بها هارفرد؛ 20% للجنسية الصينيّة، 20% لليهودية.... كما الانتخابات الأميركيّة التي تخصص أصواتاً محددة للحزب الجمهوري، وللحزب الديموقراطي، لا سيّما المستقل، والذي لمّح البروفسور - على لسان المفكرين الذين التقاهم في رحلته - إلى العنصرية العمياء التي تحكم الانتخابات، بل شكك بنزاهتها في السنوات الأخيرة ... وهذا ما أدلت به نوال السعداوي قبل 12 عاماً في كتابها "امرأة تحدّق في الشمس" الذي يندرج تحت مسمّى أدب الرحلات، والذي دوّنت فيه تجربتها في أميركا، فتحدّثت عن الانتخابات الأميركيّة الرئاسية، ولقبتها بلعبة بدائية مكشوفة، يذوب فيها مفهوما الديموقراطية والدكتاتوريّة.
فقاعة هارفرد! يقول الأكاديمي الإماراتي: كان وقع حديثها غير متوقع، وخصوصاً صراحتها، وفي الصراحة راحة، وصفت عليا؛ طالبة الدراسات العليا هارفرد بقولها إنّ "هارفرد تبدو مبهرة من الخارج، لكنّها ليست بالضرورة كذلك من الداخل، أنا محبطة، جاءت دون مستوى توقّعاتي في التدريس، ومستوى الطلاب والأساتذة عادي، وليس استثنائياً. واكتشفت أنّ نظرة العالم الخارجي المنبهرة بهارفرد مختلفة عن نظرة من يعيش داخل فقاعة هارفرد". ويضيف البروفسور عبد الخالق: "وجدت هارفرد من الداخل متأخرة عن الجامعات الخليجية في مَنْح المناصب الإدارية، والمناصب القياديّة للمرأة"، ويوثق مناصب المرأة القيادية في الخليج العربيّ؛ فالدكتورة رفيعة غباش تولّت رئاسة جامعة البحرين عام 2001، والدكتورة فايزة محمّد الخرافي تولّت إدارة جامعة الكويت عام 1933. ليستدرك الأكاديمي الإماراتي فيعترف؛ مستعيناً بالامتنان الخُلُقي الإماراتي: "شعرت برهبة هارفارد تسري في عروقي فأنا الآن في ملكة جامعات العالم، وبين ثلّة من عباقرة الطلاب في العالم".
ويحين هنا السؤال: تبرّع جون هارفرد بـ400 كتاب إلى كليّة نيوتان، الاسم السابق لجامعة هارفرد، فسميت الجامعة باسمه، فإذا تبرّع الدكتور جمعة الماجد بكتب مركزه إلى جامعة ما في دبي، وتحتوي مكتبته اليوم على أكثر من مليون كتاب، هل ستسمّى اسم الجامعة باسمه؟ ويفيدنا الأكاديمي الإماراتي بمكانة الكتب العربية في مكتبات هارفرد، ففي هارفرد الكتاب ما زال ملكاً متوّجاً محترماً له قدره وتقديره، ثمّ يفخر معترفاً بقيمة الكتاب: "الكتاب هو الذي أوصلني إلى ما أنا عليه حالياً: أكاديمي إماراتي في هارفرد". ويحدّثنا عن مكتبة بايندر في هارفرد، التي تعد تحفة معمارية مكونة من ثماني طبقات أربع منها تحت الأرض وأربع عليا...
من حفر حفرة لأخيه وقع فيها؛ بدت أميركا في سطور الرحلة الهارفردية دولة من دول العالم الثالث، وكأنَّ أميركا على أعتاب حرب أهليّة؛ فهي تعيش أزمة الأبيض، والأسمر، اللاهوتية والداروينية، الانتماء الوطني واللاانتماء. ومن المؤشرات الخطرة في المجريات المجتمعيّة؛ تراجع الدخل الأميركي من أصل أوروبي، وتصدر الدخل الأميركي من أصل هندي وآسيوي. وما يؤكّد ما يجري في أميركا من الداخل فعالية منصة x التي تنقل الكراهية إلى المستوى الوطني، كما ذكر في كتاب "أمة كارهة لنفسها". وكان اقتحام الكونغرس الأميركي في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ أميركا.
ومن الدلائل المؤسسة للحرب الأهلية في أميركا أشار البروفسور إلى فجوة العدالة الاجتماعية فيها، ألا وهي الأسوأ بين الدول الصناعية. والمصيبة الكبرى فيها أنّ في أميركا 66 مليون أمي وشبه أمي، و30 مليون فقير، و8 ملايين مشرد، وديونها بلغت 32 تريليون دولار سنة 2023، وسجلت 2.2 مليون أميركي سجين في بداية 2020 ما يفوق مساجين العالم بأجمعه.
ويؤكّد البروفسور وجود انقسام ديني وطبقي حاد في أميركا، وحالات الاغتصاب والعنف بنسب عالية، وفلكية. ويستنكر بشدّة تجاهل جامعة هارفرد، ورفضها الاعتراف بأنّ حالات العنف، وانتشار السلاح تهددان وجود أميركا، بينما تبرز فنانة في إخفاء الحقائق على ما أظنّ. ويختم الأكاديمي الإماراتي رحلته مستدركاً: "لا يوجد اقتصاد يوازي الاقتصاد الأميركي في ضخامته وكفاءته وتنافسيته، وإنتاجيته". وبرومانسية إماراتي يقول: "أميركا ما زالت جاذبة، والحلم الأميركي ما زال يراود الملايين من البشر".
وكما استلهم الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم نموذجه المثالي من قرطبة، ليجعل من دبي مركز النهضة الفكرية العالمية، اختار الأكاديمي الإماراتي بوسطن لتكون دبي المستقبل؛ بوصفها مركز عباقرة العالم، وتحتضن جامعة هارفرد التي تمنّى أن تصل جامعة من جامعات الإمارات إلى مكانتها، فيقول: "بناء جامعة بمستوى جامعة هارفرد في دبي يستحق أن يدرج على رأس قائمة الأولويات المستقبليّة". ويبقى السؤال: "هل نحتاج - حقاً - إلى صناعة هارفرد الشرق؟ أم إلى بناء شخصية إنسان تؤمن بقدراتها، وتثق بنفسها؛ معياراً عالمياً للنجاح، كما أفادنا الأكاديمي الإماراتيّ بسرّ عبقريّة هارفرد؟".
*لجين بيطار؛ أستاذة الدراسات النقديّة والإماراتيّة في الجامعة الأميركيّة.