النهار

" رماية ليلية" لأحمد زين... مرثيةٌ روائية لليمن الشقي
أحمد المديني
المصدر: باريس- النهار العربي
أحمد زين مبتلى بحال وطنه وبؤس ما آل إليه، هو بعيدٌ عنه جسدًا، مقيمٌ فيه عقلًا ووجدانًا، وإذن، لا فكاك، تصبح الرواية الوطن البديل، وبما أن كل شيء فيه انهار، وما عاد شيء يُرى، فالرؤية تأتي غائمة
" رماية ليلية" لأحمد زين... مرثيةٌ روائية لليمن الشقي
صنعاء
A+   A-

         

تبدو الرواية العربية اليوم في اتصالها واستمرارها وكأنها لا تملك إلّا حافزًا واحدًا هو مشروع كتابتها ومبرّر نشاطها السردي ومصدر رؤيتها والعالم الذي تنضوي فيه وتتغذّى منه؛ ألا وهو الخسارات الفادحة والهزائم المتفاقمة التي تتوالى في بلدان كُتّابِها، متسببةً في انهيار أوطانهم وتشتّت شعوبهم.

 

تكاد هذه العملية تصبح البديل عن البلاد الضائعة، هكذا الرواية في لبنان تجسّدت ورسخت بعد نهاية الحرب الأهلية، ومن عنفها تغدّت وبذكرياتها لا تزال.

اليوم يلتحق بها متنٌ عربيٌّ آخر في بلد لم يهدأ منذ مطلع الستينات هو اليمن المنعوت تاريخيًّا بالسّعيد واقعه يضِجّ بالمفارقة مع النعت ولا يترك لأبنائه، لكتّابه بصيصًا من السعادة.

 

عمد هؤلاء في مرحلة بدئية إلى تأسيس بنيةٍ سرديةٍ تخييليه فوق البنيات الاجتماعية التاريخية والثقافية لبلدهم، غدت إلى حدٍّ ما مرجعًا ومرآةً ثانيةً لها تعكس خصوصية ومخيال شعب، في خطٍّ متواز مع حركية الواقع وتحولاته من كل نوع، سِمَتُها العنف أكثر من أي شيء، لبلدٍ يبحث عن نفسه في آفاق التغيير والتجديد وتشتبك فيه براعم التحديث الهشة والإيديولوجية الثورية، كما تتعانق بالبنية الفوقية الأقوى والأعمق، العشيرة والقبيلة في مزيجٍ هجينٍ علينا أن نتخيل نتائجَه، تكاد هي، هي، بالرغم من تبدّل الزمان والحكام، يصعب أن تمسك فيه الرواية الزمام. ماذا يمنح الواقع الآن للروائي غير الحطام والجثث والمعطوبين وأمراء وتجار حرب متناحرين تمّ تصويره وتفكيكه حتى النخاع، فهذا قسمٌ من الرواية اليمنية، تجاوزته وطفقت تعمل في الهشيم.

 

هذا ميدان الروائي اليماني أحمد زين، لنقل انتهى إليه بعد خمس روايات سابقة: " قهوة أمريكية" (2007)؛" تصحيح وضع"(2009)؛" حرب تحت الجلد"(2010)؛" ستيمر بوينت" (2014) ؛ "فاكهة الغربان"(2020) وذروته آخر إصداره " رماية ليلية"( منشورات المتوسط،2023). تبدو هذه الرواية الأخيرة كأنها امتدادٌ لسابقتها لالتقاطها أصداء البقايا، وجمعِ أطراف ما تحطّم من مطامح ثورة في البلد كانت عتيدة وآلت إلى تناحر الرفاق والخلاف حول غنيمة الحكم، الأبطال فيها يتحرّكون كالأشباح، وسرد ما حدث يجري من ينابيع تعدّد ذاكرات، ذاكرة وجسد المرأة أقواها، وآخر ما تبقّى بعد ضياع البطولة والهدف وخسارة الثورة وتهافت الشعار؛ وحدها لتروي ما حدث ما لا يُروى، إذ الصورة وظلُّها هما مناط السرد، والسارد تعدّد وتشظّى.

 

 أحمد زين مبتلى بحال وطنه وبؤس ما آل إليه، هو بعيدٌ عنه جسدًا، مقيمٌ فيه عقلًا ووجدانًا، وإذن، لا فكاك، تصبح الرواية الوطن البديل، وبما أن كل شيء فيه انهار، وما عاد شيء يُرى، فالرؤية تأتي غائمة، كيف لا والرماية يتدرّب عليها الجنود ليلًا فتُسمّى ليلية وبثمن كم ضحيّة. في هذه الحالة يعسُر تلخيص القصة للقارئ، فلا قصة ثمة بالمعنى المعهود، يقتضي أحداثًا وأفعالًا ومنطقًا سببيًّا، باعتبار الرواية لا تقوم على مادة حكائية، وتقوّض أدوات أدائها تعتمد عوضها سرديات الخفاء والسير بك في المنعرجات لا إمكان للخط المستقيم كي يقصّ ويصف ما تهدّم وفسد.

ولأن رؤية الكاتب سوداويةٌ مطلقًا منسجمةٌ مع وضع الخراب كل ما يستطيع بل يودّ فعله هو جمع الأشلاء وصدى الأصوات بعزف سمفونية النهاية مرثيةً لليمن الشّقيّ.

 
 

يتناوب على العزف خمس شخصيات، والنسوية هنا مركز الجاذبية: ليلى المذيعة في إذاعة للمعارضة بالخارج. صديقتها فايزة الوصيفة في فندق فخم يقيم فيه أقطاب المعارضة وحكومة المنفى. جندي أو ضابط متعدّد الأدوار. نادر، العضو الذي ينحسر عنه النفوذ والخليل الغامض لليلى. المصوّر، والوسيط والمخبر وصاحب المهمات الغامضة. سلوى امتدادٌ لفايزة في القاهرة. ثم رهط بلا عدّ يُشار لهم من كبار المنفيين والفارّين من اليمن بعد الانقلاب على سلطتهم يتمتعون ويترهّلون في الفنادق الفخمة. يقابلهم بالنقيض جنودٌ معوّقون يعالَجون في مستشفى.

مسرح وجود جميع الشخصيات، بإشارة عابرة، مدينة الرّياض، بعدما غادرت صنعاء، وحلّت هنا في وضعية بين المنفى واللجوء ومتابعة ما يجري هناك بطموح الانقضاض من جديد على السلطة.

 

يتخذ الكاتب من ليلى قناة الإخبار عن الموجودين في محيطها، شبه سارد، وهي فعلًا صوتٌ بما أنها مذيعة في إذاعة معارضة المنفى، وانطلاقًا من وضعها، أزمتها الشخصية، يُسخّرها لعرض شبكة العلاقات المتداخلة والمنسوجة بعينيْ رفيقتها في السكن فايزة، مَن سيوضع على لسانها خطاب الهزء والسخرية والتنكيل المعنوي بالمنفيين من درجة خمس نجوم وحكومتهم.

 

 

مساران للرواية

تأخذ هذه الرواية مسارين: أفقي، يمتد فيه خط ّالحكي لحكاية مضمرة لا تتسمّى ولكن تُخمَّن بدوال الإشارة إليها كأنها بداهة وتحصيل حاصل، اسم البلد غالبًا يحال إليه بضمير الغائب؛ ولا القوة المسيطرة فيه، يكتفى بـ" الانقلاب" و" الانقلابيين" بلا أسماء، هم كمٌّ غفل، العارف يفهم أنهم بطانة الرئيس عبد ربه منصور هادي مقرّها في الرياض، تجريدٌ يلغي إنسانيتهم يدجّنهم ويحوّلهم إلى سلعة وديكور تتفنن الوصيفة فايزة فن التشهير بهم، هي نفسها سليلة عائلة ثرية وضالعة في صفقات المنفى.

 

يتخذ الكاتب من ليلى محورًا لسرد يتكرّر، جامد، في صراع مع المؤسسة الإذاعية حيث تعمل، وأزماتها منها صوتها المفتقر للحماس، وسطوة مديرها، وسكرتيرته، وعلاقتها الغامضة بنادر، وانتقالها إلى القاهرة بإغراء منه وضياعها اللاّ مجد، وتمثيلات لهشاشةٍ بلا حدود لشخصية ضحلة، يفترض أن خيوط الحكي تمتد منها وتعود إليها.

والباقي ليلى في استرجاع وتمطيط ذكريات وتشتت ذات تعوّض بها عن فراغ شخصية ضائعة بين هواجس شخصية وتعلّق غامض بفايزة وحيرة في حسم الانتماء لم يعد لها من مكان تتجول فيه سوى ذاكرتها (265)، ولن نكون معنيين بها في نهاية الرواية.

 

المسار الثاني هي الأصوات الداخلية فيه تتكلم، وترسم مونولوغاتها نوعية الصراع الذي تعيشه، أكبر من الحرب الدائرة هناك، وهو ما يعطي لهذه الرواية ثقلها ووجاهتهاـ أكاد أقول مبرّر كتابتها.

 

يُضاف إلى صوت ليلى المتحيّر والراصد، وامتدادًا فايزة، هناك الخط العمودي للحكي، تحضر فيه شخصية الجندي تناوب بين فصول الرواية يستعيد قتله لرفيقه لإنقاذه ومعاناته واستيهامات تطول تنقلنا بين ساحة قتال ومستشفى لعلاج الجرحى ومعطوبي الحرب، يتولّى فيها حديث المونولوغ يفضي فيه بآلامه من فعله وصورة قتيله، ثم وهو يمارس العلاج النفسي بنصيحة الطبيب أن يكتب رسالة إلى القتيل ويصف ما حدث له في حرب الإخوة الأعداء وهو شنيع.

 

مساران يتوازيان ويتحاوران ضمنًا، بينهما قاسم مشترك هو (العطب)، تيمة رئيس في روائية أحمد زين، وعوض أن يشخّصها كاملة يغرقها في الغموض والكثافة الشعورية بإفراط يعوق التلقّي على القارئ أن يصنعه ويركّبه من شتات يختلط فيه الواقعي بالرمزي، والمضمر أكثر من المتلفظ، كأن هناك ما يكبح القول، والرواية تلاحق ديمومة العطب، وأفضل طريقة تبنّاها أحمد زين تجريبية ولها كلفتها بمسحة الغموض الغالبة وبالبوليفونية لتعويض اللّا حدث. باختصار، ما يتأسس على العطب يُبنى معطوبًا جماليًّا، وهذا رهان رواية، كتابة أخرى.

اقرأ في النهار Premium