نانسي فضول
القراءة ليست مجرد عملية نقل كلمات من صفحات الكتب إلى العقل، بل هي تجربة غامرة تأخذنا إلى عوالم بعيدة، وتفتح أمامنا أبوابًا للمعرفة والفهم والخيال. ويتجلّى سحر القراءة في قدرته على تحويل الكلمات إلى صور وأصوات ومشاعر حيّة، تجعلنا نعيش قصصًا لم نعشها، ونكتشف أماكن لم نزرها، ونتعرف إلى شخصيات لم نلتقِها من قبل.
في عصر التكنولوجيا والسرعة، يميل أغلب القراء إلى اللجوء إلى طرق تسهّل عليهم القراءة، مثل الكتب الإلكترونية والكتب الصوتية. بيد أنها تفتقر إلى أمر أساسي، فهي غير محسوسة وتختفي حالما ننتهي من قراءتها.
للكتب الورقية سحرها الخاص، يميّزها من أشكال القراءة الأخرى. إنها تمنح القارئ فرصة الإحساس بملمسها الفريد ورائحتها المميزة التي تثير الحنين وتضفي بعدًا حسيًا لتجربة القراءة. فملمس الورق وتقليب الصفحات يخلقان شعورًا بالحميمية والارتباط المادي بالكتاب ورائحة الورق. فكيف إذا كنا نتصفح الكتب القديمة التي تثير ذكريات وتعود بنا إلى زمن جميل وتحملنا في رحلة من الذكريات والحنين؟!
يستوقفني "كتاب الرصيف" دائماً، فمشهد يعمّ مدن العالم: كتب قديمة ومستعملة معروضة على الأرصفة في الأسواق والمناطق العامة التي تتحول إلى مكتبات مفتوحة، والمستلقية في انتظار مالك جديد ينتشلها من بؤسها ويستقل على متنها رحلة عبر الزمان والمكان. "كتاب الرصيف" هذا ظاهرة ثقافية مميزة تحمل قصصًا وشهادات من الماضي، ما يجعلها كنوزًا خفية تنتظر من يكتشفها.
قيمة ثقافية وتاريخية
يتيح "كتاب الرصيف" وغيره من الكتب المستعملة للقراء فرصة الإطلاع على آثار نادرة، قد لا تكون متوافرة في المكتبات الحديثة. ويمكن العثور على طبعات قديمة من الروايات الكلاسيكية، وكتب تحمل توقيعات وتذكارات شخصية وأعمالاً فنية نادرة وطبعات أولى لم تعد متوافرة في المكتبات، ما يضفي عليها قيمة عاطفية وتاريخية لا تُقدّر بثمن.
لا يزال مشهد الكتب على ضفاف نهر السين في باريس، وعلى الأرصفة في روما، وعلى رفوف المكتبات القديمة في بيروت محفورًا في ذاكرتي، ولم أنسَ الحنين الذي خالجني عند التجول بين العناوين والروايات والمجلات القديمة التي أثارت فضولي للغوص فيها وتصفحها.
وأكثر ما استوقفني، في هذه الروايات والكتب، هي الملاحظات على الهوامش والإهداءات المكتوبة بخط اليد، تركها قراء سابقون، فأضافت بعدًا عاطفيًا وشخصيًا إلى تجربتي. أحس بهذا الارتباط غير المباشر معهم، وأتخيّل وأنا أتصفح هذه الملاحظات الهامشية والخطوط والعلامات أنني أسترق النظر إلى عالمهم الخاص، وأعيش تجربتهم الخاصة مع النص، و"أتطفل" على ذكرياتهم العاطفية وتعليقاتهم النقدية وتفسيراتهم الشخصية للنص.
تتيح هذه التجربة أيضًا فرصة اجتماعية للقاء أشخاص يشاركوننا الاهتمامات نفسها. فعند التجول بين أكشاك الكتب المستعملة، يتسنّى للقراء تبادل النصائح والآراء حول كتب مختلفة، وهذا التفاعل يعزز روح المجتمع والتبادل الثقافي والتقاء الأفكار من مختلف الجنسيات والأعراق.
دعم الاستدامة
لشراء الكتب المستعملة بُعد بيئي مهمّ، إذ يُعدّ جزءًا من جهود الحفاظ على البيئة، حيث يساهم في تقليل هدر الأوراق المستخدمة في صناعة الكتب، وإعادة استخدام الموارد. ويُعزّز هذا الأمر فكرة الاستدامة ويساهم في حماية البيئة للأجيال المقبلة.
ولعلّ إحدى أكبر مزايا شراء الكتب من الأرصفة هي أسعارها المنخفضة، ما يجعلها خيارًا اقتصاديًا ممتازًا خصوصًا للطلاب أو للأشخاص الذين يرغبون في توسيع مكتباتهم الشخصية والحصول على كنوز ثمينة من دون أفراط في الإنفاق.
ليس "كتاب الرصيف" مجرد كتاب مستعمل... إنما هو باب إلى عوالم من المعرفة والتجارب، يطرقها القارئ النهم وهو يشمّ بقايا رائحة الورق المصفرّ على أصابعه. إنها التجربة المتكاملة فعلاً.