منذ سبعينات القرن الماضي، تكاثرت الأبحاث والدراسات التي تناولت أعلام فكرنا الحديث والمعاصر. ولكن قليلة هي الأبحاث والدراسات التي جاءت من دون إسقاطات مخلّة أو تفسيرات غير موضوعية واستنتاجات غير واقعية بعيدة عن أهداف هؤلاء الأعلام وتطلّعاتهم الحقيقية.
من هذه الأبحاث والدراسات القليلة واللافتة في موضوعيتها ورصانتها، كتاب الباحثة والأكاديمية نايلة أبي نادر وعنوانه: "شربل داغر، العولمة والنص" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2023).
توجّهت الباحثة مباشرة إلى نصوص داغر وحاورته في كل جوانب تفكيره ومضامين مؤلفاته العديدة، بقصد استجلاء أهدافه النهضوية وتطلعاته الحداثية وكشف المخفي والمسكوت عنه في نصوصه، والإضاءة على المشروع الفكري الذي عمل عليه منذ نصف قرن.
من هنا، فالكتاب - كما وصفه فتحي التريكي في تقديمه له - مساهمة فكرية ونقدية تناولت بالبحث والتنقيب ناقداً ومفكراً طليعياً في العالم العربي، كشفت مؤلفته في ثنايا دراستها عن "قدرة منهجية لتقصي مسارات العمل الفني ومشارب الفكر المختلف ومغامراتها داخل السائد المطلق".
في مراجعة لبعض المفاهيم التي أبرزتها في قراءتها المعمقة لآثار داغر، طرحت المؤلفة سؤالاً إشكالياً: هل من معنى للعولمة في نص داغر؟ لتخلص إلى أن الاهتمام بالعولمة حاضر في كتابته إلا أن السؤال يبقى مفتوحاً: أي عولمة وكيف تعامل داغر معها؟
عولمة وتبدلات
تفاعل داغر مع العولمة في نصه ولم يبق بمنأى عمّا يعايشه زمنه من تبدّلات ومعادلات ومسائل (وهذا لا يعني في رأي المؤلفة، أن داغر كاتب عولمي) لكننا، كما يقول، لا نستطيع أن ندير ظهرنا للعالم، فيما نظن أننا نقاوم، كما تظهر بل تخفي مواقف استعلائية إزاء الآخر، فيما نظن أننا نؤكد شخصيتنا.
لكنّ العولمة إذ تحرّك ديناميات جديدة وتسرّع إيقاعات العمل والتواصل والتفاعل بين النخب والجماعات بما يسقط الحدود أو يخترقها، فإن لها تجليات معاكسة لمنطق انتشارها المتسارع، ذلك أنها قد تطيح مشروعات الاستقلال، وتهدّد الهويات لمصلحة تشكلات مستجدة تعمل على التنميط والقولبة.
نحن لا نستطيع أن نواجه العولمة من دون أن نشارك في ما تقدمه من تقنيات ووسائل ورهانات، لأننا، كما يقول داغر في أحد حواراته مع المؤلفة: "إذا حردنا وأدرنا ظهرنا للعولمة، فسنكون دائماً في دور المستهلك فيها، والتابع لها".
وإذا عدنا إلى مؤلفات داغر التي فاقت السبعين، نرى فيها علامات تشير إلى تفاعله سلباً أو إيجاباً مع العولمة.
ويمكن الاستنتاج أن داغر مفكر جمع بين ضفتي المتوسط، وانفتح على عالم الفكر بتعددية مناهجه وتنوّع مقارباته، كما هو في الوقت عينه شديد التمكن من أسباب ثقافته المحلية، من دون أن يفتقر منظوره، في الوجهتين، إلى قراءة نقدية بل جذرية في العديد من أوجهها.
وهو من هذا المنظور بالذات اتخذ من العولمة موقفاً متفاعلاً وناقداً في الوقت عينه، فقد تنبّه إلى قوتها "الغازية" كما تنبّه إلى عدم قدرة مجتمعاتنا ببناها التقليدية، وذات العقلية الريعية، على مواكبة تحوّلات العولمة واتقاء عواقبها.
فداغر حسب المؤلفة، ناقد ما انقطع عن الحداثة أفقاً، ولا عن العلمانية خياراً للعيش والسياسة، ولا عن التجديد رؤية وأساليب وتعبيرات، على الضد من عمليات التدجين التي نجحت في إخفاء صوت النقد في عالمنا العربي، كأن الرضوخ هو الأمر الطبيعي، والطاعة العمياء هي السبيل المؤدي إلى النجاة، هذا التوجّه العلماني تجد الباحثة نايلة أبي نادر أواصر مودّة فكرية بين محمد أركون وشربل داغر، فالأول لأنه أمضى خمسين عاماً في مقاومة القراءات المؤدلجة التي قولبت العقل، وسلّط الضوء على مكمن الخلل في العقل العربي الإسلامي. والثاني لأنه انشغل بالهم النهضوي، لغة وأدباً وشعراً وفناً وتاريخاً اجتماعياً، فضلاً عن القناعات المشتركة بينهما وانشغالهما بقضايا التراث، الأمر الذي جعلها ترى في تجربة كل منهما نموذجاً للمنهج النقدي وللمقاربة الرصينة.
"العولمة والنص" كتاب ثري بأفكاره ونقده، جذّاب بأسلوبه الفاتن، متين بدقة استدلالاته، يعطي للنقد حقه وللإبداع تجلياته.
بهذه الكلمات اختصر فتحي التريكي كتاب الباحثة أبي نادر، ونرى من جهتنا أنها في قراءتها لنص داغر قد أجادت في فتحه على الزمن العولمي ومعاناة الإنسان المعاصر، فكانت بذلك شريكة في هذا النص، وفي ما أبدعه من أفكار فلسفية وأيديولوجية، من خلال حواراتها وتأويلاتها واستنتاجاتها، بما شرّع فكر داغر على مدى رحب وجديد.