النهار

علاقة محمود درويش بريتا اليهوديّة تُلهم أسامة حبشي روائياً
علي عطا
المصدر: القاهرة- النهار العربي
"أكتب عمَّا تعرف". بصرف النظر عمَّا إذا كان قائل هذه النصيحة مبدعًا أو ناقدًا، فإن مناسبة الكتابة عن رواية "موسم الفراشات الحزين" (دار صفصافة – القاهرة)، للروائي المصري أسامة حبشي، تستدعي تأملها؛ انطلاقًا من ضرورة عدم التسليم بوجاهتها بشكل مطلق. من البديهي ألا نعرف ما الذي يعرفه الكاتب، وما الذي لا يعرفه، على وجه دقيق وموضوعي. وبديهي – مع ذلك - أن يكتب الكاتب "عمّا يعرف"، مع إدراك أن وسائل تحصيل المعرفة يصعب حصرُها، فهي تتنوع وتتسع من عصر إلى آخر. لكنّ الخيال- المتكئ على موهبة أصلية- يظل هو العنصر الأهم في أي عمل إبداعي.
علاقة محمود درويش بريتا اليهوديّة تُلهم أسامة حبشي روائياً
محمود وريتا
A+   A-
 
"اكتب عمَّا تعرف". بصرف النظر عمَّا إذا كان قائل هذه النصيحة مبدعاً أو ناقداً، فإن مناسبة الكتابة عن رواية "موسم الفراشات الحزين" (دار صفصافة – القاهرة)، للروائي المصري أسامة حبشي، تستدعي تأملها؛ انطلاقاً من ضرورة عدم التسليم بوجاهتها مطلقاً. 
من البديهي ألا نعرف ما الذي يعرفه الكاتب، وما الذي لا يعرفه، على وجه دقيق وموضوعي. وبديهي – مع ذلك - أن يكتب الكاتب "عمّا يعرف"، مع إدراك أن وسائل تحصيل المعرفة يصعب حصرُها، فهي تتنوع وتتسع من عصر إلى آخر. لكنّ الخيال المتكئ على موهبة أصلية، يظل هو العنصر الأهم في أي عمل إبداعي. 
أقول ذلك، وفي ذهني أنه ربما يقال: هل يعرف أسامة حبشي فلسطين ليكتب عنها رواية؟ وأقول: بالطبع يعرفها، وإلا لما كتب هذا العمل الذي قد يندهش صاحبُ نصيحة "اكتب عمّا تعرف"، عندما يعرف أن كاتبه مصري وليس فلسطينياً، وهو اندهاش ليس في محله كما سيتضح لاحقاً، وكما سبق أن اتضح في كثير من النماذج الإبداعية لمبدعين ليسوا من فلسطين، بل كتبوا عن المأساة الفلسطينية. 
أسامة حبشي لم ينجح فقط في رسم تفاصيل مكان لم تطأه قدماه، بل نجح كذلك في تصوير ملامح حقبة زمنية لم يعشْها، ونحتَ شخصيات بدت واقعيةً، مع أنها وليدة خياله الخصب، وجعلنا، فوق ما تقدَّم، نعيش وقائع النكبة الفلسطينية الممتدة، ويصل، من ثم، الماضي الدامي بحاضرٍ يفوقه دموية وتوحشاً في كل أرجاء فلسطين، وليس في غزة وحسب.
 
 
 
صوت طفل
يبدأ السرد بصوت طفل - ويتواصل مع تقدم السارد نفسه في العمر - أُجبِرت أسرتُه من جانب العصابات الصهيونية عقب نكبة عام 1948، على ترك قريتها والعيش في مخيمات للاجئين. هذه القرية لم يحدَّد السارد اسمها، لكن جرى وصفُها بواسطة راو عليم، بعبارة شاعرية مكثَّفة: "بلدتُهم هناك، حيث أول الريح، وحيث تستقر الفراشات حول البئر". 
رأس هذه الأسرة شيخ في الثمانين من عمره، يدعى ياسين، لا يقبل بالوضع الجديد، ويصر على العودة إلى قريته، لكنه يفاجأ بمجرد الوصول إليه بأنها قد تحوَّلت ومعها القرى الأخرى التي تجاورها إلى خراب. ينزع الحجارة التي تغطي البئر التي تقع أمام بيت الأسرة فينطلق منها سربٌ من الفراشات، فيطلق معه فراشة سبق أن سقطّت في حجره "مريضة"، عندما كان يجلس فوق تلة تتوسط مخيم اللاجئين، وظل يعتني بها طوال أيام رحلة العودة. والسارد الذي أشرنا إليه هو حفيد ذلك الشيخ، ويمثل جيلاً تفتّح وعيه على نكبة ما كان له أن يدرك - في حينه - فداحة ما ستسفر عنه على نحو يماثل الوعي بها من جانب جيل الأب والأم، وجيل الجد. 
يبدو الجد وكأنه لا يريد العودة إلى القرية إلا ليموت ويدفن فيها، وهو ما تحقَّق له، وبات في الوقت نفسه صعب المنال بالنسبة إلى بقية أفراد تلك الأسرة التي اضطرت مراراً إلى التنقل من مكان إلى آخر في شتات بلا انتهاء. 
قبل أن يلفظ الجد أنفاسه الأخيرة يعطي حفيده صورة تجمعه بصديقه "أبراهام"، ويوصيه بالحفاظ عليها، على أمل أن يتجدد التعايش بين العرب واليهود في هذا البلد.
 
 
 
حضور محمود درويش
"أبراهام" هذا، له حفيدة تدعى "سارة"، تبادل السارد الحب، بينما أبوها المنخرط في إحدى العصابات المسؤولة عن قتل الفلسطينيين وتشريدهم، يتركها رضيعة في رعاية جدها. وهنا يمكننا التوقف عند دلالة الأسماء، فـ "أبراهام" يرتبط في الذاكرة الجمعية للمسلمين واليهود والمسيحيين بأبي الأنبياء إبراهيم. كما يرتبط اسم "سارة"، الملقبة لدى اليهود بأم العبرانيين، وهي زوجة إبراهيم عليه السلام، وأم النبي إسحاق، والد النبي يعقوب، الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل. 
قلما يعطي حبشي لشخصيات روايته أسماء، بمن في ذلك بطل الرواية، وأمه وأبوه، وصاحب حقل الورد الذي يسميه "الرجل ذو الساق الواحدة"...
تتكئ الرواية إجمالاً على البعد الرمزي، خصوصاً في المتداول بشأن أثر أو تأثير الفراشة، والقائل بأن من غير الممكن التنبؤ بما ستؤدي إليه رفرفة جناح فراشة في مكان ما، من كوارث في مكان آخر بعيد بعد الصين عن أميركا. 
ولمحمود درويش كما هو معروف كتاب نثري بعنوان "أثر الفراشة" صادر في عام 2008، يدور في فلك هذه الفرضية. ومحمود درويش الذي يهدي إليه أسامة حبشي رواية "موسم الفراشات الحزين"، حاضر في الرواية نفسها، من دون ذكر اسمه صراحة، إذ اكتفى السارد بالإشارة إليه: "وهناك شاعرنا يكبر ويكبر ويحارب بالقصيدة مثل صديقي الذي يحارب بكاميرته ومثلي أحارب بوردة". 
درويش حاضر كذلك، بطريقة غير مباشرة، في قصة حب السارد و"سارة"، التي تشبه العلاقة التي ربطت بين شاعر المقاومة وفتاة يهودية اشتهرت باسم "ريتا".
 
 
 
أثر الفراشة 
تتوالى المصائر غير المتوقعة، على الأقل بالنسبة إلى السارد، على أثر رفرفة فراشة في مستهل الرواية. سارة تصبح نجمة سينمائية في هوليوود، وبعد أن تغيَّر اسمها إلى "إرما" تسند إليها بطولة فيلم يُزيّف الواقع في فلسطين، ووالدها يصبح رئيس وزراء "الدولة العدو"، بتعبير السارد، والجد "أبراهام" يستولي على "حقل الورد"، ويتوقف تماماً عن التحدث بالعربية مع أنه يتقنها تماماً، ومن ثم يتبدَّد أي أمل في استئناف التعايش الذي كان بين الفلسطينيين بمختلف دياناتهم. 
وقبل الوصول إلى هذه المصائر، كان السارد الذي لا نعرف له اسماً، ما يعزز كونه نموذجاً لملايين مثله، قد توقف في مشوار التعليم عند المرحلة الثانوية، وانخرط في نشاط الحزب الشيوعي الإسرائيلي، على أمل أن يأمن عبر ذلك بطش العصابات المسلّحة، لكنه بمجرد أن نشر مقالةً في صحيفة الحزب يلمح فيها إلى ما ارتكبته تلك العصابات من فظائع، حتى يُعتقل ويُنتهك عرضه في السجن. 
وبعد ترحال طويل، يستقر في "مدينة الله"، في إشارة رمزية إلى القدس، ويتفرغ لبيع الورد، وهو يأمل مجدداً أن يشفع له ذلك في العيش بأمان، لكنهم يحرقون محله ويتسببون في شلل إحدى ذراعيه، وما إن يتعافى قليلاً يجد نفسه وقد أمسك بحجر، وفي نيته العمل بمقولة بازوليني: "يجب أن تدافع عمَّا تحب"، بالعنف هذه المرة، لا بالورد، فيطلق عليه الجنود المكلفون بمواجهة انتفاضة الحجارة، الرصاص. 
لكن لماذا بازوليني بالذات؟ والإجابة أن السارد المولع منذ نعومة أظفاره بالسينما كان يعتبره مثلاً أعلى؛ كاتباً وشاعراً ومخرجاً. وهو كان يؤمن أيضاً، قبل قتله بدم بارد، بمقولة صديقه الذي سافر إلى روسيا لدراسة الإخراج السينمائي: "السينما بها تصنع حروباً وبها تصنع سلاماً وبها يمكن أن تعتقل من تشاء بكامل إرادته".
 

اقرأ في النهار Premium