تحوّل اليمين المتطرّف في فرنسا إلى مصدر اهتمام، ليس في مستوى التناول الإعلامي اليوم فحسب، بل داخل الحقل الأكاديمي. تجمع أغلب الدراسات التي تتعلّق بالتشكيلات الاجتماعية التي أصبحت تعطي أصواتها لهذا اليمين القومي الصاعد، على أنها تنتمي إلى فئة مهمّشةٍ من العمال وأصحاب الدخل المحدود وسكان الأرياف، الذين تضرّروا على مدى العقود الماضية من العولمة والنيوليبرالية، والذين يريدون إعادة أمجاد نموذج الدولة القومية واقتصادها الحمائي.
لكن ما يطرحه كتاب الباحث في علم الاجتماع، فيليسيان فوري، "الناخبون العاديون: استقصاء حول تطبيع اليمين المتطرّف"، يقدّم زاوية نظر جديدة لهذا السديم الانتخابي اليميني المتطرّف، وربما يقدّم منظوراً جديداً للبحث في القاعدة الانتخابية لليمين القومي في عموم أوروبا، حيث تكمن قوة أحزاب اليمين المتطرّف في نجاحها في زيادة قاعدتها الانتخابية، من خلال التجنيد من فئات غير متجانسة اجتماعياً، من دون أن تفقد قاعدتها الأساسية، على الرغم من أنها تقدّم لكل فئة من فئات هذه القاعدة خطاباً مختلفاً، ويكاد يكون متناقضاً أحياناً.
حرفيون وموظفون ورجال إطفاء وتجار ومتقاعدون، لديهم وضع مستقر، ويقولون إنهم "لا يستحقون الشفقة" حتى لو كانت نهاية الشهر صعبة بالنسبة إلى الكثير منهم من الناحية المادية، والمستقبل غير مؤكّد. يصوّتون لحزب التجمّع الوطني بحماسة شديدة، ولا تهمّهم برامجه الاقتصادية، بقدر ما تستهويهم أيديولوجيته الثقافية القومية، المعادية للمهاجرين ولكل غريبٍ عن البلاد. بين عامي 2016 و2022، عاش فيليسيان فوري زمناً متقطعاً في جنوب شرق فرنسا، المهد التاريخي لليمين المتطرّف، للقاء هؤلاء المتحمسين للتجمع الوطني، في مسعى لفهم كيف يفكر هؤلاء ولماذا يختارون جبهة مارين لوبّن، كاشفاً عن المكانة المركزية التي تحتلها العنصرية، بمختلف أشكالها، في خياراتهم الانتخابية. ويتبين هنا أن تصويت حزب التجمّع الوطني يستند إلى الحس الواضح للطروحات الثقافية الصراعية، ويتكوّن من معايير الأغلبية التي يُنظر إليها على أنها مهدّدة، ويجب بالتالي الدفاع عنها.
من خلال الصور والقصص المجسّدة، يلقي هذا التحقيق الميداني ضوءاً جديداً على كيفية نشر الأفكار اليمينية المتطرّفة في الحياة اليومية الفرنسية. تعارض هذه الخلاصة بشكل واضح، التفسير المعمم، الذي دافع عنه كل من الاقتصاديين جوليا كيجي وتوماس بيكيتي، في كتابهما "تاريخ الصراع السياسي : الانتخابات والتفاوتات الاجتماعية في فرنسا 1789-2022"، والذي يعتبر أن عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية هو العامل الرئيسي الذي يحدّد تصويت حزب الجبهة الوطنية؛ هذا العامل المادي يمكن أن يكون صائباً، وهو كذلك، في تفسير تحول تصويت الطبقات العاملة والوسطى في الشمال والشرق، من منح أصواتها لأحزاب اليسار قبل سنوات، إلى مساندة أقصى اليمين، بسبب تدهور أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، لكنه لا يمكن أن يقدّم تفسيراً عاماً لكل القاعدة الانتخابية للميني متطرّف، بحسب النتائج التي يقدّمها كتاب فوري.
يكشف هذا الكتاب في الدرجة الأولى عن مركزية الدوافع العنصرية لدى القاعدة الانتخابية لليمين المتطرّف. وبالتالي، فإن استراتيجية التخويف من الأجانب، والآخر على نحو عام، المتبعة من طرف الجبهة الوطنية، تبدو أنها نجحت في تثبيت فكرة أن الأجنبي لا يهدّد الفرنسي الأبيض في فرص العمل والمساعدات الاجتماعية فحسب، ولكن في نمط عيشه وفي وجوده الثقافي والاجتماعي. بالتالي، تمثيلاتهم للعالم الاجتماعي تكشف، مثل خريطة مشوهة، عن فجوة بين المخاوف الذاتية من الفجوات الاجتماعية والمسافات الطبقية الحقيقية. وفي حين تصبح الاختلافات الصغيرة في المصطلحات الثقافية لافتة للنظر مسببة للانقسام بشكل خاص، فإن انتقاد القوى الاقتصادية المهيمنة يبدو أقل بروزاً، أو في أي حال أكثر تقييداً، فيما تصبح الفجوات في مستويات المعيشة معهم أكثر اتساعاً.
ويحذّر الباحث من فكرة الاستسلام لـ "المغالطة الفردية"، أي إضفاء طابع فردي على التصويت، وانتزاع الفرد من بيئته الاجتماعية، وإضفاء الطابع الجوهري على العنصريين. التصويت هو تعبير عن تفضيلات منظمة بشكل جماعي، حيث يتطور ناخبو الجبهة الوطنية، مثل كل الناخبين، في مساحات اجتماعية تتقاسم وجهات نظر عالمية متشابهة، حيث تصبح الفطرة السليمة العنصرية هي القاعدة. وبالتالي، الإدانة الأخلاقية من الخارج لن تؤدي إلّا لتعزيز مجتمع الناخبين المتشكّكين في "النخب الأوليغارشية"، التي يتّهمها اليمين المتطرّف دائماً بــ "تخريب البلاد ثقافياً واقتصادياً".
على الرغم من أن هؤلاء الناخبين ينظرون إلى أنفسهم في وضع اجتماعي متوسط ضعيف، فإنهم ليسوا الأكثر فقراً، وليسوا "الأكثر إثارة للشفقة"، لكنهم لم يصلوا إلى وضع يسمح لهم بالحصول على "وضع اجتماعي قوي"، والتفكير بمستقبل ومستقبل أطفالهم بهدوء. وهذا يؤدي إلى ظهور ما سمّاه عالم الاجتماع أوليفييه شوارتز "الوعي الاجتماعي الثلاثي"، مع هذا الشعور بالوقوع بين الضغط القادم "من الأعلى" والضغط القادم "من الأسفل". في مرحلة التسارع العنصري والاستبدادي التي تعيشها فرنسا وسائر أوروبا، يقدّم الكتاب مفاتيح قيّمة لفهم دعم جزء متزايد من السكان للأيديولوجيات اليمينية المتطرّفة. ومن أجل موازنة وجهة النظر الأبوية التي كانت مخصصة أحياناً لهؤلاء الناخبين، فإنها تُظهر الدور الهيكلي للعنصرية في تمثيلهم للعالم الاجتماعي، معتقدين أنهم عالقون في منافسات اجتماعية وعنصرية صريحة، فإنهم يعتزمون الحصول على الأرباح التي من المفترض أن يمنحها لهم نظام الأغلبية البيضاء. وبالتالي، فإن مطالبهم، حتى عندما تتعلق بالشؤون "الاجتماعية"، هي تلك المطالبة بالمزيد من التهميش، والمزيد من الفصل، والمزيد من القمع تجاه الأجانب والغرباء.