لماذا تفشل الديموقراطية الليبرالية في أوروبا الشرقية؟ قبل سنوات، حاول فان كراستيف وستيفن هولمز، وهما بلغاري وأميركي، الإجابة عن هذا السؤال في كتابهما "الضوء الذي انطفأ"، من خلال تفسير التحول غير الليبرالي في المنطقة، باعتباره رد فعل مضللاً ضد "الانتقال" من الشيوعية بعد عام 1989، والذي حاول تبني كل ما هو غربي والتخلي عن كل ما هو غير غربي.
يعد هذا التفسير واحداً من أكثر التحليلات جدارة بالثقة لأسس اللا ليبرالية في أوروبا الوسطى والشرقية. والواقع أن إدخال العواطف، باعتبارها المفتاح لفهم اللا ليبرالية يشكل أهمية خاصة. إن المنظور الجيوسياسي الذي يطرحه كراستيف وهولمز ينحصر إلى حد كبير في التأثير الذي خلفه ما بدا وكأنه انتصار ساحق حققته الرأسمالية الغربية على الشيوعية في الحرب الباردة. لقد بدا انتصار الغرب الذي يلخصه كراستيف وهولمز تحت مسمى "الليبرالية"، مذهلاً إلى الحد الذي جعل "الليبرالية" لا تملك أي بديل. ومن المؤكد أن شعوب أوروبا الشيوعية سابقاً لم يكن لديها أي بديل خاص بها. لذا لم يكن أمامها خيار سوى تقليد النموذج الغربي.
في كتابه ''أبيض ولكن ليس تماماً: الثورة غير الليبرالية في أوروبا الوسطى"، يقدم الأنثروبولوجي التشيكي - الكندي، إيفان كالمار، منظوراً مختلفاً لهذا الفشل، فلا يسميه فشلاً، بقدر ما يحاول تفسير الحالة خارج المثال الغربي تماماً. منذ "أزمة الهجرة" في عام 2016، أثبتت التوترات المستمرة منذ فترة طويلة بين الأعضاء الغربيين في الاتحاد الأوروبي وأعضائه الشرقيين الجدد - بولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا والمجر - أنها أرض خصبة للتمرد ضد القيم والسياسات الليبرالية. في هذا الكتاب المذهل والأصيل، يعتقد إيفان كالامار أن النزعة غير الليبرالية في أوروبا الوسطى هي استجابة مضللة للتأثيرات المدمرة لليبرالية الجديدة العالمية، والتي نشأت عن التحول الوحشي للرأسمالية في المنطقة في تسعينات القرن العشرين، إذ حيث تبدو المواقف الرافضة تجاه "الأوروبيين الشرقيين" شكلاً من أشكال العنصرية، ويستكشف العلاقة الوثيقة بين العنصرية تجاه الأوروبيين في الشرق والعنصرية من قبل الأوروبيين الشرقيين أنفسهم ضد بقية الأعراق.
يشرح الكاتب الذي رغم جنسيته الكندية، يعرف جيداً الثقافة الأوروبية الشرقية وعناصرها الأساسية، عنصرية الأوروبيين الغربيين ضد الأوروبيين الشرقيين، وحدة عنصرية الأوروبيين الشرقيين ضد بقية الأعراق، من زاوية التناقضات الداخلية للرأسمالية، واضعاً المناقشة حول التوجهات غير الليبرالية في أوروبا الوسطى على أسس جديدة، مختلفة عن النهج السائد الذي يفسرها بالعوامل الثقافية والدينية وبالتراث الشيوعي.
باستخدام نظرية الرأسمالية القائمة على العرق، يقدم الكتاب رؤى جديدة للأدبيات الكثيرة حول التمرد غير الليبرالي في أوروبا الوسطى، لا سيما في المجر وبولندا والتشيك. أظهرت الأدبيات المتعلقة بالرأسمالية القائمة على العرق في أميركا كيف أن المجموعات البيضاء التي كان يُعتقد في البداية أنها غير بيضاء أو ليست بيضاء بالكامل، أصبحت بيضاء. لقد عومل المهاجرون الأيرلنديون والإيطاليون القادمون من أوروبا الشرقية في الولايات المتحدة في البداية بازدراء واستُبعدوا من الحصول على امتيازات البيض. ثم مع الزمن والقبول التدريجي للتسلسل الهرمي السائد القائم على العرق، أصبحت هذه المجموعات بيضاء بالكامل. ومع ذلك، في أوروبا، لم يصبح الأوروبيون الشرقيون أكثر بياضاً، بل أصبحوا أقل بياضاً. إن الوظيفة الأساسية لمناهضة أوروبا الشرقية تتلخص في حرمانها من الامتيازات الكاملة للبيض، وإبقاء الأطراف الشرقية للقارة في "دولة شبه مستعمرة" باعتبارها مصدراً للعمالة الرخيصة وأسواقاً للمنتجات الغربية.
في المقابل، تبدو العنصرية ضد غير البيض أكثر حدة في أوروبا الشرقية منها في أوروبا الغربية. يفسر الكاتب ذلك من خلال رفض الصواب السياسي الغربي الذي يعتبر وسيلة مثالية للتعبير عن الوعي الذاتي المسيء لأوروبا الشرقية، حيث مثلاً تُعد كراهية الإسلام الاستفزازية أداة سياسية لمواجهة الليبراليين في بروكسل وحلفائهم في النخبة الفكرية والتجارية المحلية. الفكرة الأساسية التي يدافع عنها الكتاب، وهي معقدة وجدلية إلى أبعد حد، هي أن ثقافة العنصرية والعداء لليبرالية في أوروبا الشرقية، متشابكة عميقاً مع النظام الاقتصادي الأوروبي النيو ليبرالي. فأوروبا الوسطى، رغم كونها هامشية بالنسبة إلى جوهر تراكم رأس المال الغربي، تظل مع ذلك منطقة تتمتع بامتياز جزئي في الجغرافيا السياسية العالمية، وعلى هذا النحو كانت ولا تزال تعمل بطرق تشارك في استغلال الشمال العالمي للجنوب. وعلى النقيض من الاعتقاد السائد، استفادت أوروبا الوسطى تاريخياً كمنطقة أوروبية بيضاء من المغامرة الاستعمارية الغربية، ولا تزال تستفيد من امتيازها بعد الاستعمار. إن النسخة الأوروبية الوسطى من "البياض غير التام" توفر لأوروبا الوسطى الطامحة إلى القبول الكامل في التسلسل الهرمي العنصري الأبيض الفرصة لتبني خطابات العنصرية البيضاء بطريقة من الواضح أنها غير متاحة للأشخاص غير البيض. فالرغبة في أن نكون بين المستفيدين وليس بين ضحايا الامتياز الأبيض تقطع شوطاً طويلاً في تفسير نجاح الخطاب العنصري بين العديد من سكان أوروبا الوسطى.
وفضلاً عما يقدمه الكتاب من تحليل دقيق لحالة أوروبا الشرقية والوسطى، فإنه يقدم لقارئه أدوات ومراجع لفهم ديناميكيات الموجة العنصرية الصاعدة في العالم، ومنظوراً لتفسير كيف يمكن لمجتمع مضطهد أن يمارس العنصرية على مضطهدين آخرين كظواهر كراهية المهاجرين واللاجئين في مجتمعاتنا العربية. وببراعة يشرح كيف تتمكن العنصرية من تجديد نفسها مراراً وتكراراً.