انتشرت الأنثولوجيات الشعرية على نطاق واسع خلال الآونة الأخيرة، وهي تلك المختارات التي تهدف إلى التعريف بالشعر وبالشعراء، من خلال المقتطفات القليلة المنتقاة من القصائد الدالة المعبّرة.
ولعل هذه المختارات تناسب قارئاً عصرياً يميل إلى الملخصات الموجزة، إذا أراد نبذة عن شعر بلد بأكمله، أو شعر لغة دون غيرها، أو أراد فكرة عن ظاهرة شعرية محددة، أو عن تيار شعري عريض، أو عن شاعر غزير الإنتاج.
تتعدد صيغ الأنثولوجيات الشعرية، فمن الممكن أن يتم إعدادها على أساس التمثيل القُطري أو المنطقة المكانية أو المرحلة الزمانية، أو أن تشتمل الأنثولوجيا على تجارب نسوية من دولة أو دول عدة.
وأيضاً، قد يجري إعدادها على أساس الثيمة المشتركة، كموضوع النصوص أو النوع الأدبي أو الجماعة وغيره. كما قد يعدها الشاعر بنفسه أحياناً، منتقياً بعض نماذج من أعماله.
وتضاف إلى ذلك، تلك الأنثولوجيات الشعرية ذات الطبيعة الخاصة، التي يقترن صدورها بانعقاد المؤتمرات والمهرجانات الشعرية. وقد تضم قصائد المشاركين من جنسيات مختلفة، أو تُخَصص لبلد واحد أو لجيل شعري دون آخر، أو ترتكز على محور مشترك تجري مناقشته في الفعالية.
الحدائق وباقات الزهور
إذا كانت هذه "الأنثولوجيات" الشعرية هي "باقات الزهور" المنتقاة بعناية من حدائق القصائد، وفق معنى الأنثولوجيا في اللغة اليونانية، فإن اقتناءها وحدها لا يغني عن ارتياد الحدائق الخضراء الواسعة بطبيعة الحال.
المختارات تقدم المفاتيح السحرية لأبواب المعرفة وفضاءاتها، ولكن المعرفة الجادة الكبرى خلف هذه الأبواب. وفرق كبير بين الإطلال على العناوين ورؤوس الموضوعات وشواهدها، والإلمام الشامل بتفاصيل الظواهر، وتقصي جذورها، وتلمّس تمثلاتها الثرية المتنوعة.
يحفل المشهد المصري والعربي خلال هذه الفترة بتفجرات هائلة من هذه الأنثولوجيات الشعرية، التي تلعب دوراً بارزاً في تكثيف الضوء على الشعر والشعراء، وفق معالجة أو زاوية التقاط معينة.
وإلى جانب ما تقوم به المختارات الشعرية من جذب انتباه القارئ غير المتخصص وإشباعه بهذه المختارات، فإنها تلفت نظر الباحثين إلى أسماء وظواهر وتيارات وثيمات وموضوعات جديرة بالاكتشاف والتدقيق والتناول الأكثر رحابة وعمقاً في أطروحات لاحقة تفصيلية.
قصائد تضيء الطريق
وفي هذا السياق "إضاءة الطريق"، تعاقب صدور عشرات الأنثولوجيات الشعرية. ومنها على سبيل المثل لا الحصر: "ينابيع تصنع نهراً.. أنطولوجيا قصيدة النثر المصرية"، و"قصائد تضيء الطريق من تونس إلى القاهرة... أنطولوجيا قصيدة النثر في تونس"، الصادرتان عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ضمن أعمال مؤتمر قصيدة النثر المصرية.
كما صدرت أنثولوجيا "30 حاسة جديدة - مختارات من قصيدة النثر السعودية" (إعداد محمد خضر)، عن نادي الطائف الأدبي ودار ميلاد، و"التي تشغلُ بالَ النجوم.. أنثولوجيا قصيدة النثر في السودان" (إعداد أنس مصطفى)، و"ثقب المفتاح لا يَرى.. 20 شاعرة أميركية حائزات جائزتي نوبل وبوليتزر" (ترجمة سارة حواس)، عن مؤسسة بيت الحكمة للثقافة.
وصدرت أيضاً أنثولوجيا "نساء يصعب حبهن.. مختارات من قصيدة النثر النسائية المعاصرة" لشاعرات يكتبن بالإنكليزية عن دار رواشن للنشر (ترجمة أسماء حسين)، و"مختارات للشاعرة الأميركية لوسيل كليفتون" عن دار ميتا للنشر، و"مختارات للشاعرة الأميركية فيكتوريا تشانغ" عن دار عرب للنشر والتوزيع (ترجمة ممدوح رزق)، وغيرها.
جدل المختارات تونسية
ولعل ما أثارته أنثولوجيا قصيدة النثر التونسية من سجال، يؤكد أن الأنثولوجيات تبقى دائماً حمّالة أوجه، ومحكومة بوجهة نظر القائم على إعدادها إلى حد كبير.
فعلى الرغم من أن الأنثولوجيا التونسية من إعداد شاعرة هي ماجدة الظاهري، وتقديم شاعر وباحث هو عبد المجيد يوسف، وكلاهما من قلب حركة قصيدة النثر المعاصرة في تونس، فإنها أثارت حراكاً بلغ حد الجدل.
وسبب ذلك، اختيارات النصوص التي رآها بعضهم لا تمثل جميع وجوه قصيدة النثر بتونس وتياراتها وأجيالها، فيما انتقد آخرون وجود أصوات شعرية لا تعبر عن قصيدة النثر كاتجاه، أو ذات مستويات لا ترقى للمأمول.
استغرقت الأنثولوجيا مئة وثمانين صفحة، وتضمنت قصائد لسبعة وأربعين من شعراء تونس المعاصرين، منهم: حبيب الهمامي، مراد بن منصور، أحمد السلطاني، رياض الشرايطي، ريم قمري، بسمة الحذيري، جمال الجلاصي، الحبيب المرموشي، ضحى بوترعة، وغيرهم.
ويرى المعترضون أن عبد المجيد يوسف لا يفسر المنهج الذي يحكم انتقاءات الأنثولوجيا، والمعايير الفنية التي تنسحب على قصائدها، مكتفياً باللجوء إلى التاريخ لتوضيح جذور قصيدة النثر التونسية، والعوامل المختلفة التي أثرت على نشوئها وتطورها، وصولاً إلى القصائد الحديثة المختارة. ورغم ذلك، جرى استبعاد بعض الأصوات النثرية المهمة، خصوصاً من جيل الرواد والمؤسسين.
ولا تنتهي مثل هذه الاتهامات، بالرغم من أن الطبيعي والبديهي ألا تقدم الأنثولوجيات حصراً وافياً للجميع في إطار الظاهرة محل الرصد، وأنه قد يكفي التمثيل لها بعدد وافٍ من الأطياف المتحققة المؤثرة. وهنا قد تثار اتهامات أخرى، بشأن عدم جودة بعض الأصوات المختارة، أو أنها لا تنتمي من الوجهة الفنية والموسيقية إلى قصيدة النثر.
الارتباط والاستقلال
وعموماً، تأتي أنثولوجيات المؤتمرات والمهرجانات الشعرية مرتبطة بالفعالية إلى حد كبير، أكثر من كونها عملاً منهجياً مجرداً. ومن أحدثها على سبيل المثل الأنثولوجيا التي أصدرها منذ أيام قليلة "مهرجان الشعر العالمي" في الصين، برعاية اتحاد الكتّاب الصينيين.
وتضم الأنثولوجيا نصوصاً باللغة الصينية وباللغات الأصلية لأكثر من سبعين شاعراً من دول مجموعة بريكس الاقتصادية؛ مصر، السعودية، الإمارات، إيران، الهند، البرازيل، روسيا، إثيوبيا، جنوب أفريقيا، الصين، على اعتبار أن شعراء كل دولة من المشاركين في المهرجان يعبّرون عن شعرية اللحظة الراهنة فيها، بصفتهم شعراء معاصرين.
وبالرغم من حرص الأنثولوجيا على فكرة التنوع، فإن التزامن اللحظي في الكتابة قد لا يبدو وحده خيطاً كافياً لتمثيل المشهد الشعري الجديد في دولة ما من خلال نصوص تنتمي إلى تيارات متباعدة حد التنافر. فهناك مثلاً قصائد عمودية كلاسيكية إلى جانب أخرى تفعيلية وقصائد نثر تجريبية، الأمر الذي يكاد يلغي وجود سياق للانتقاء.
في السودان
وعلى العكس، فإن الأنثولوجيات المستقلة التي يجري التحضير لها بأناة واصطبار كمشروع ضخم، بإمكانها أن تصدر كعمل موسوعي، تأريخي وتوثيقي، يكاد يتجاوز فكرة تمثيل الأصوات الشعرية إلى حصرها بالكامل.
ومن تلك الأعمال مثلاً "أنثولوجيا قصيدة النثر في السودان"، من إعداد الشاعر والكاتب السوداني أنس مصطفى، التي تتضمن نماذج وافية للقسط الأعظم من شعراء قصيدة النثر السودانية، منذ ستينيات القرن الماضي، حتى اللحظة الحالية. وتشتمل على نصوص لأكثر من سبعين شاعراً وشاعرة من أجيال متلاحقة، في ما يزيد على خمسمئة وخمسين صفحة.
ومنها أيضاً "مختارات من قصيدة النثر السعودية"، التي جمعها وأعدّها الشاعر محمد خضر الغامدي، متضمنة الأصوات الأبرز لقصيدة النثر السعودية على مدار نصف قرن. وهي أنثولوجيا تضع معياراً للانتقاء، هو إحداث حراك في بنية القصيدة وتشكلاتها الجمالية، يواكب تحولات الكتابة الشعرية الجديدة في الآفاق العربية المختلفة.