جاء جوليانو دا إمبولي، عالم الأدب، من السياسة. فهو قبل أن يكتب وينشر روايته الشهيرة "ساحر الكرملين"، عن عراب بوتين، فلاديسلاف سوركوف، درس وعمل طويلاً في العلوم السياسية، متخصصاً في اليمين القومي والشعبوي الذي بات يزحف على مهل نحو السلطة في أوروبا. وفي كتابه "مهندسو الفوضى: خلف كواليس الحركة الشعبوية العالمية" يشرح إمبولي بإسهاب وسعة اطلاع الماكينة الرقمية والتقنية التي تقف وراء هذه الموجة التي تتراوح بين صعود قومي حاد وعودة إلى الفاشية في ثوب جديد.
ينقل دا إمبولي عن غوته قوله، وهو يتجول في شوارع روما: "الكرنفال هو احتفال يمنحه الناس لأنفسهم". في كل مكان تقريباً، في أوروبا وأماكن أخرى من العالم، يتخذ صعود الشعبوية هيئة رقصة مسعورة تقلب كل القواعد الراسخة وتحولها إلى نقيضها. وفي نظر ناخبيهم، تتحول أخطاء القادة الشعبويين إلى صفات. وقلة خبرتهم دليل إلى أنهم لا ينتمون إلى دائرة النخب الفاسدة وعدم كفاءتهم هو ضمان أصالتهم. إن التوترات التي تنتجها على المستوى الدولي هي مثال على استقلالهم والأخبار الكاذبة التي تتخلل دعايتهم، تمثل علامة على حريتهم في الفكر. في عالم دونالد ترامب وبوريس جونسون وماتيو سالفيني، يحمل كل يوم كوارث وأخطاء وزلات لا تُغتفر. ومع ذلك، وراء المظاهر الجامحة للكرنفال الشعبوي، يكمن العمل الشاق الذي قام به العشرات من المحللين النفسيين والمنظرين الأيديولوجيين، وفي كثير من الأحيان العلماء وخبراء البيانات الضخمة، الذين لولاهم لما وصل هؤلاء القادة الشعبويون إلى السلطة أبداً. هؤلاء هم مهندسو الفوضى، الذين رسم جوليانو دا إمبولي صورتهم. من القصة المذهلة لشركة التسويق الصغيرة عبر الإنترنت (MS5) التي أصبحت أول حزب إيطالي شعبوي، مروراً بالفيزيائيين الذين ضمنوا انتصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ورجال الاتصالات الذين غيروا وجه أوروبا الشرقية، إلى منظري اليمين الأميركي الذين دفعوا دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، يكشف هذا التحقيق الرائع وغير المسبوق عن كواليس الحركة الشعبوية العالمية. والنتيجة هي معرض من الشخصيات الملونة، كلها تقريباً غير معروفة لعامة الناس، والذين مع ذلك يغيرون قواعد اللعبة السياسية ووجه مجتمعاتنا.
لكي نفهم الموجة الشعبوية، علينا أن نبدأ بتحليلها، وألا نقتصر على إدانتها أو تصفيتها. من هذه المسلمة ينطلق الكاتب في محاولة استكشاف من يقف وراء هذا المرض الذي أصاب الديموقراطية الغربية. ومن زواية الآليات التي تحرك المد الشعبوي، يحلل إمبولي دور النخبة الاتصالية الدعائية التي صممت آلة اتصال فائقة القوة. بدايةً من أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. تقوم على توجيه الرأي العام من خلال استعمال خوارزميات الإنترنت، بدايةً من المدونات والمواقع، ثم في عصر الانفجار الهائل لمنصات التواصل الاجتماعي. ويستعرض الكتاب العديد من العمليات التي تمت بهذا الأسلوب في الولايات المتحدة والبرازيل والمملكة المتحدة وحتى في المجر. ويتناول أيضاً التفاصيل حول كيفية تعامل دونالد ترامب وفريقه مع مفاهيم الحقيقة البديلة ونظريات المؤامرة والأخبار المزيفة، والتي يتم خلطها جميعاً بواسطة الخوارزميات المسؤولة عن صدى ما يعتقده الناس من دون مرشح ومن دون إدراك متأخر، على وجه الخصوص من خلال المجتمعات الرقمية التي تعبر عن نفسها على وسائل التواصل. هذا هو المكان الذي نرى فيه مثلاً، روح ستيف بانون اللعينة وموقعه الإخباري، يكافحان من أجل تشكيل رأي عام مؤيد لدونالد ترامب وتحسين التأثير وصوغ الرسائل لمصلحته باستمرار.
يذهب الكاتب إلى وجود استثمار قوي في توليف الغضب النفسي، المتأتي من الظروف التي خلقتها السياقات الاقتصادية والاجتماعية للعولمة والنيولبريالية،مع التطور التقني في توظيف الخوارزميات لتشكيل رأي عامٍ متوافق مع السرد السياسي للحركات الشعبوية وقادتها. بالنسبة إلى مهندسي الفوضى الجدد، لم تعد اللعبة تتمثل في توحيد الناس حول القاسم المشترك الأدنى، بل على العكس من ذلك، تأجيج مشاعر أكبر عدد ممكن من المجموعات الصغيرة ثم جمعها معاً، كالقطيع.
في هذا السياق يحلل جوليانو دا إمبولي، الدور المحوري الذي لعبته شركة الاستشارات وإدارة وجمع البيانات وتحليلها "كامبريدج أناليتيكا"، في صناعة رسائل مؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وترويجها في المملكة المتحدة وانتخاب دونالد ترامب، في الولايات المتحدة في عام 2016، من خلال قيامها بتنظيم عملية تفريغ البيانات الشخصية لـ87 مليون مستخدم لفايسبوك. والتي كشفت التحقيقات لاحقاً عن وجود العديد من مؤشرات حول روابط عضوية ومصالح سياسية-صناعية وسياسية-مالية بين خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومجموعات معينة تدعم ترامب وإدارته، وروسيا. وقد تم تكرار هذا النجاح من قبل حزب ماتيو سالفيني في إيطاليا، ذي النزوع الشعبوية من خلال برنامج تقني أطلق عليه اسم "الوحش" يلتهم كل البيانات ويطلقها على شكل شعارات وحملات قادرة على اعتراض مئات الآلاف، وأحياناً ملايين الناخبين، صممه الأستاذ في جامعة فيرونا لوكا موريسي، وهكذا أصبح ماتيو سالفيني، بفضل موريسي، الزعيم الأوروبي الأكثر متابعة على الفايسبوك، متقدماً بفارق كبير على ماكرون وميركل.
ويحذر الباحث الإيطالي من إغراء رؤية انتصار اللاعقلانية على العقل في المسيرة الأمامية للشعبويين. فهذا الكرنفال المعاصر يتغذى على عنصرين ليسا غير معقولين: أولاً غضب بعض الدوائر الشعبية التي تقوم على أسباب اجتماعية واقتصادية حقيقية؛ وثانياً آلة اتصال طاغية تريد استثمار الاستخدام المكثف للشبكات الاجتماعية، لإحداث تأثيرات غير عقلانية وغير قابلة للتنبؤ بها في العالم السياسي.