"من الأفضل أن تقتلوني، لكنني لا أستطيع أن أكذب. روسيا تقف على عتبة كارثة. إذا لم تُحكموا شد البراغي، فستسقط الطائرة من الجو".
بالكاد مرّت أربعة أشهر على كلماته، حتى سقطت طائرة يفغيني بريغوجين من أجواء موسكو، فحقق مقتلُه ما بدا لاحقاً أشبه بنبوءة. حدث ذلك في 23 آب (أغسطس) 2023.
كما يقول مؤلّفا كتاب "سقوط: بريغوجين، بوتين والصراع الجديد من أجل مستقبل روسيا"، يمكن تحميل مقابلة غاضبة لبريغوجين قراءات كثيرة. لم يكن ذلك بياناً للإصلاح السياسي أو توقعاً لكيفية مقتله، على ما كتبه الدكتور مارك غاليوتي، المؤرخ البريطاني ومدير مؤسسة "ماياك للاستخبارات"، وآنا أروتونيان، الباحثة في "معهد كينان" لدراسات روسيا وأوكرانيا وآسيا الوسطى.
غاليوتي وأروتونيان، مؤلفان لعشرات الكتب عن روسيا، يغوصان في أحداث عدة شبه سوريالية عن حياة بريغوجين. لكنهما يشيران أيضاً إلى أن كتابهما (صادر عن "بنغوين راندوم هاوس" في حزيران/يونيو 2024)، لا يسلط الضوء على حياة شخص واحد وحسب بل أيضاً على عالم عاش فيه وحتى ساهم في تشكيله.
لكن "سقوط" ليس فقط سرداً لأحداث ماضية. لا تكمن مزايا الكتاب في توقيت صدوره بعد عام على التمرد (23/24 حزيران 2023). التوقيت وحده لن يمنح الكتاب أكثر مما يبدو عليه للوهلة الأولى: مراجعة تاريخية تهم الباحثين في شؤون "فاغنر" أو حتى الكرملين. الأهم أن "سقوط" يفتح آفاقاً على مستقبل روسيا من زوايا جديدة، قد لا تكون صحيحة بالضرورة، لكنها مع ذلك تستحق التأمل.
"نحن لا أنتم!"
ربما أكثر ما يذكره الناس عن بريغوجين – بعد تمرده، إن لم يكن أحياناً قبله – صراخه وشتائمه الدائمة بحق وزير الدفاع السابق سيرغي شويغو ورئيس هيئة الأركان العامة للقوات الروسية الجنرال فاليري غيراسيموف. يمكن تفسير هذا الصراع في أحد جوانبه بالخلاف بشأن كمية الذخائر التي تَوجب أن تُعطى لمقاتلي "فاغنر" خلال محاولتهم احتلال مدينة باخموت الشهيرة أو في قتالهم ضمن ميادين أخرى. لكن الخلاف أعمق من ذلك. يعيد الكاتبان التوتر، خصوصاً بين بريغوجين وشويغو، إلى سنة 2012 حين استلم الأخير وزارة الدفاع.
برز اختلاف واضح بين الشخصيتين في الطباع والسياسة. لكن من بين العوامل الأخرى أن شويغو أراد السيطرة على الأموال التي كانت تتدفق على "فاغنر" من خارج مؤسسة وزارة الدفاع. وهي سيطرة لم يكن هدفها المزيد من الشفافية كما ينقل الكاتبان عن المسؤول السابق في "فاغنر" مارات غابيلودين.
(بريغوجين في إحدى إطلالاته الغاضبة من وزارة الدفاع الروسية - أب)
حمل بريغوجين مشاعر الكره تجاه شويغو لأسباب عدة. كان يعتبر أن روسيا تستدعي قواته للمشاركة في جبهات قتالية عند الحاجة، ثم تأتي وزارة الدفاع لا لتقطف ثمار "نجاحاتها" وحسب، بل أيضاً لـ"تعاقبها" على هذا النجاح عبر قطع التمويل أو الذخائر أو عقود تقديم الطعام للجيش.
"لقد كنّا نحن، لا أنتم، من استعدنا تدمر"، صرخ بريغوجين ذات يوم من سنة 2016 حين أبلغ شويغو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استعادة القوات الروسية للمدينة من قبضة "داعش". يقول الكاتبان إن هذا الخلاف مثل نقطة مفصلية في تاريخ الصراع بين الرجلين.
بارع وملهِم... لكن فليمتنع عن الحلم!
يلفت غاليوتي وأروتونيان الانتباه إلى تقارير تحدثت عن نظرة شويغو التي تحطّ من أمثال بريغوجين (gopniks) والتي تعتبر أن هؤلاء – وهم خليط من العصابات والسوقيين من الطبقات الاجتماعية الدنيا – "لا يستطيعون دخول التاريخ". وشهد الرجلان مواجهة شخصية لاحقة سنة 2018 حين قال شويغو كلاماً لبريغوجين لم يخلُ أيضاً من الاستعلاء.
(عشاء عمل في أحد مطاعم بريغوجين بسانت بطرسبورغ سنة 2006 يجمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي حينذاك جورج بوش الابن - سبوتنيك/أب)
كما أوضح الكاتبان في أكثر من محطة، كان بريغوجين يعاني من جرح نفسي على هذا المستوى. هو بارع في الدفاع عن مصالح روسيا والكرملين بحسب رؤيته، لكنه لم يحظَ بتقدير النخبة، والأهم بتقدير رئيس البلاد. "لم يُقدِم قط على القفزة الجوهرية من خادم للقيصر إلى صديق (له)"، كما كان كثر من دائرة معارف بوتين القديمة. لقد كان "الطباخ القِن الذي يمكن أن يُكرَّم، أن يصبح صاحب ثروة وحتى أن يكون محط إلهام – لكنه لن يكون أبداً أكثر من قِن (serf)". وهذا ما لم يدركه بريغوجين باكراً ولا حتى في أواخر حياته حين شنّ "مسيرة العدالة" نحو موسكو.
لم يكن الهدف من "المسيرة" إسقاط بوتين، بل دفعه إلى التخلي عن شويغو وغيراسيموف. لكن منذ أطلق بوتين تهديده عند نحو العاشرة من صباح السبت الواقع في 24 حزيران، عرف بريغوجين أن عليه التفاوض لإيجاد أفضل مخرج. بالرغم من ذلك، رأى الكاتبان أن بوتين كان متردداً.
الجرأة القاتلة
لقد تأخر بوتين في اتخاذ القرار وامتنع عن الرد على اتصال بريغوجين في وقت بدت قواته عاجزة عن وقف التمرد. بعد أقل من أسبوع على التمرد، عُقد اجتماع في الكرملين حضره بريغوجين وقادة آخرون من "فاغنر". حينها، كان زعيم المنظمة شبه العسكرية قد شعر بفائض قوة عندما طرح الرئيس تغيير قيادة "فاغنر" على أن تستمر في عملها كالمعتاد. رفض بريغوجين بجرأة مفاجئة: "لا. الشباب لا يوافقون على هذا القرار".
(أب)
بمعنى آخر، لم يكن بوتين قد اتخذ قراراً بالانتقام في الأيام الأولى التي تلت التمرد. يبقى هذا لغزاً بالنسبة إلى الكاتبين اللذين اقترحا تفسيرات عدة كالخوف على المكاسب المستقبلية لـ"فاغنر" بعد غياب زعيمها، أو انتظار اللحظة المناسبة وانتهاء التحقيقات، أو حتى عدم ارتياح بوتين حيال اتخاذ القرارات الصعبة.
من العائلة التي ترعرع فيها وقضائه عقداً من الزمن في السجن (وهي فترة بارزة لمعرفة كيف تشكلت شخصيته) مروراً لاحقاً بتأسيس عدد من الأعمال في مجالات المطاعم والإعلام والأفلام والمضايقات السيبرانية وليس انتهاء بتأسيس "فاغنر"، يقدم "سقوط" رحلة مثيرة للاهتمام عن حياة واحدة من أكثر الشخصيات الجدلية التي طبعت، وربما، بحسب الكاتبين، سيظل طيفها يطبع روسيا لفترة من الزمن.