في روايته "شاهد نور" (دار البيان العربي)، يكمل صالح إبراهيم مساراً روائياً بدأه، وكأننا أمام تحديد مباشر لـ"ماهيّة الرواية" وهويّة الروائي القائمة - في تجربته - على ثلاثة: الإنسان/ اللغة/ الموضوعة.
في هذه المدوّنة حضر الإنسان متفوّقاً على بقية الأقانيم، حيث سعى الكاتب إلى نقد العقل والكشف عن تجربته من خلال شخصيّة سعد الباحثة عن هويّتها العقائديّة والفكريّة عبر تقنيّة الحوار من جهة، وتلقّي المجتمع أو "جهاز الرقابة" لهذه المغامرات عبر تقنيّة السرد من جهة أخرى.
هكذا جاءت الرواية كمحاولة جادّة للإجابة عن الإشكاليّة التالية: كيف استطاع صالح إبراهيم نقد الإنسان؟ وهل استطاع تجاوز التصوير الواقعي نحو الحث على تشكيل مجتمع آخر؟
الحوارات والنقد الفكري للفرد
يمكن سريعاً التمييز بين الأيديولوجيا والفلسفة على أنّ الأولى تبنٍ وإيمانٌ بنهج معين، أمّا الثانية فهي السعي إلى الوصول للحقيقة أو" الحكمة".
فمن خلال شخصيّة "سعد" أعطى صالح إبراهيم هويّة فلسفيّة للنص حيث كان الزمان عاملاً محرّكاً للشخصيّة وعقليّتها، فعلى طول صفحات الرواية كان زمنا الماضي والمستقبل هما العاملين المؤثّرين على هويّة سعد.
وقد تجلّى ذلك عبر الحوارات التي ارتأى إبراهيم أن تكون خارجيّة ثنائيّة مباشرة لإظهار الضدّ وضدّه، لكنّ المفارقة أنّ الكاتب لم يمنح سعد فرصة لمحاورة ذاته أو أن يكون صوتاً يعكس تساؤلاته وتساؤلات من حوله، لتكون الرؤية من الخلف سردياً عبر استخدام ضمير الغائب في السرد عاملاً قد أبطأ إيقاع الرواية وحركتها.
وبالعودة إلى الحوارات نكتشف أنّ أغلبها كانت تحمل طابعاً نقدياً وتساؤلياً، وابتعدت عن كلّ أشكال التواصليّة أو حتّى الرومنطيقيّة: "أكثرنا لا يرى النور الإلهي..."(ص.65 )، "لماذا الناس، هنا، مسلمون بغالبيّتهم؟" (ص.71 )، "لماذا لا نقبل طقوس الآخرين وأفكارهم" (ص.137).
ولعلّ شخصيّة "الرجل الأخضر" التي أوجدها الكاتب، تعويضاً عن "ثغرة" حجب الصوت الروائي عن سعد، يمكن أن تشكّل تناصاً دينياً مع الرجل الصالح الذي ظهر رفقة النبي موسى (ع) في سورة الكهف، وهو المعروف بالخضر الحيّ وفقاً لتفسير جمهور من العلماء.
وقد يمثّل الضمير الذي يقود سعد نحو ما تفتقده الروح من معرفة وإجابات وتبعدها عن الرغبة، والحقّ أنّ التناص الشعريّ ظهر كذلك من خلال الحوارات وعبر ما قاله سعد أنّنا نعيش محاطين مع أولئك الذين يسببون وحدتنا، وهو ما يتقاطع مع سطر شعريّ للشاعر اللبناني عبّاس بيضون: "أعيش محاطاً بكل أولئك الذين جعلوني وحيداً".
شكّلت الحوارات مساحة حرّة كي يفنّد الكاتب عقل الشخصيّة ويظهر مغامراتها عبر ماضٍ يعتقده بسبب حلم أو رغبة ومستقبل يظنّه خلاصاً واعتناقاً نهائياً لدين أو عقيدة محدّدة.
السرد وصورة المجتمع
تحرّر السرد في هذا النّص من الإطناب واتسم بالوصف البانوراميّ للآخر، وقد حملت الأمكنة المتبدّلة: أربيل، الموصل، بعلبك، المعبد... فسحة حكائيّة تبيّن أوجهاً أخرى من المجتمع أو ما يعرف بالآخر ومنبراً يعرّف به "ريش إمّة رجل سبعيني، ربّما طويل القامة نحيف..." (ص.17) "جالوا أوّلاً في معبد باخوس ثمّ انطلقوا إلى معبد جوبيتير.." (ص.34 )، "بعد التطهر وهو يستعدّ للسجود أمسك بالخرقة يريد أن يلبسها..."(ص.152).
شكّل هذا التعدد المكاني والسلوكي ارتباطاً وثيقاً بالعنوان الثانوي للرواية "عابر الديانات"، ما جعل البنية السرديّة للنّص لا تقوم على شخصيّة واحدة أو شخصيّة أساسيّة بل على حلقة متكاملة من الشخصيّات الجوهريّة التي تتواصل وتتحاور من أجل محاولة تشكيل كتلة مجتمعيّة ثابتة أو ربّما إظهار الاختلافات والتباينات.
يتجاوز صالح إبراهيم سردياً مرحلة تصوير الواقع نحو الحثّ على تشكيل مجتمع في الكثير من المجتمعات المتجانسة باختلافها وتنوّعها، وقد عبّر عن هذه الفكرة بوضوح من خلال المحاورة الأخيرة بين سعد وشخصيّة الرجل الأخضر: "الخارج يعكس الداخل أو قليلاً منه... لأنك لم تعد تكترث للخارج، فداخلك حنين لا يتأثر بالخارج"(ص.161).
هذه العبارات الخبريّة تعكس وصول سعد إلى التجانس مع المغامرة والبحث، وفي الوقت نفسه تحمل بعداً اجتماعياً مفاده أنّ سلطة الاعتقاد لا ينبغي أن تتهدّد سلباً بالخارج وحركته.
رواية "شاهد نور" بطاقة إنسانيّة تتشكّل باستمرار وفقاً للفرد واحتكاكه المستدام بالجماعة، لكنّها تركت سؤالاً تقنياً: لو أتيح لسعد أن يكون راوياً مصاحباً للحدث أو الأحداث، فهل سينحاز إلى داخله وتصبح الحكايا محض تفاصيل يوميّة؟ أم سيقول ما قاله الراوي أي الكاتب نفسه؟".