النهار

النهار

"السّتينات السّوفياتيّة": عصر الزّهو والفضاء واللّايقين
أحمد نظيف
أحمد نظيف
المصدر: النهار العربي
شكلت فترة الستينات فاصلةً فريدة من نوعها في التاريخ السوفياتي، تميزت بآثار وفاة ستالين في عام 1953 وما تلا ذلك من صراع على السلطة بين قادة الحزب الشيوعي الحاكم. شهد هذا العقد صعود نيكيتا خروتشوف الذي أدت سياساته الرامية إلى اجتثاث الستالينية والتوجه نحو القليل من اللبرلة، إلى خلق جو من الانفتاح النسبي والتحرر.
"السّتينات السّوفياتيّة": عصر الزّهو والفضاء واللّايقين
نيكيتا خروتشوف
A+   A-
على رغم كثافة المادة، وتعقيد الموضوع، يكتب لنا روبرت هورنسبي قصة الستينات العجيبة في الاتحاد السوفياتي، بأسلوب جذاب وسهل، ما يجعل الكتاب في متناول القارئ العادي والمهتم والمتخصص. إن سرده غني بالمعلومات ومقنع في الوقت نفسه، يجذب المرء إلى عالم الستينات السوفياتية، ويجعله أحياناً جزءاً منه. "الستينات السوفياتية"، الصادر حديثاً عن جامعة يال، دراسة متعمقة لعقد تحولي في التاريخ السوفياتي، وهي فترة تمت دراستها على نطاق واسع والجدل حولها لم يتوقف أبداً. يقدم الكتاب تحليلاً شاملاً لفترة الستينات في قاطرة المعسكر الاشتراكي، وهو الوقت الذي كانت فيه البلاد تمر بسلسلة من التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية المهمة. يقدم هورنسبي، وهو مؤرخ متخصص في الدراسات الروسية، سرداً غنياً ودقيقاً يغطي الجوانب المتعددة الأوجه لهذا العقد الديناميكي. ويتجاوز عمله التفسيرات التبسيطية والثنائية لتلك الحقبة، ما يوفر فهماً أكثر تعقيداً وطبقات لفترة الستينات السوفياتية.
 
 
 
شكلت فترة الستينات فاصلةً فريدة من نوعها في التاريخ السوفياتي، تميزت بآثار وفاة ستالين في عام 1953 وما تلى ذلك من صراع على السلطة بين قادة الحزب الشيوعي الحاكم. شهد هذا العقد صعود نيكيتا خروتشوف الذي أدت سياساته الرامية إلى اجتثاث الستالينية والتوجه نحو القليل من اللبرلة، إلى خلق جو من الانفتاح النسبي والتحرر. تميزت هذه الفترة بتخفيف الرقابة وزيادة الحرية الفكرية والفنية والشعور بالتفاؤل بين العديد من المواطنين. ومع ذلك، أدى هذا الذوبان أيضاً إلى اضطرابات سياسية بلغت ذروتها بإطاحة خروتشوف في عام 1964 وما تلى ذلك من تراجع المحافظين في عهد ليونيد بريجنيف.
 
يتميز الكتاب بنطاقه الشامل. فهو لا يقتصر على السياسة العليا أو التحليل الثقافي وحده؛ وبدلاً من ذلك، يقدم رؤية شاملة للمجتمع السوفياتي خلال الستينات، وينسج خيوط التاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي معاً من خلال مجموعة واسعة من المصادر، بما في ذلك الوثائق الأرشيفية والمذكرات والمقابلات ووسائل الإعلام المعاصرة، لتقديم منظور شامل. تسمح له هذه الدقة برسم صورة تفصيلية للعصر، واستكشاف التعقيدات والتناقضات التي ميزت الستينات السوفياتية. في قلب القصة التي يرويها هورنسبي هناك المشهد السياسي المتغير للاتحاد السوفياتي خلال الستينات، مقدماً وصفاً دقيقاً للديناميكيات الداخلية داخل الحزب الشيوعي، وبخاصة التوتر بين الفصائل الإصلاحية والمحافظة. يتعمق الكاتب في حرب خروتشوف الواسعة لإزالة الستالينية من الاتحاد السوفياتي والاستقبال المختلط الذي تلقته هذه السياسات داخل الحزب والمجتمع الأوسع، مؤكداً أنه على رغم أن إصلاحات خروتشوف جلبت قدراً من التحرر، إلا أنها أدت أيضاً إلى قدر كبير من عدم الاستقرار السياسي. وكانت سياساته في كثير من الأحيان غير متسقة وغير متوقعة، ما خلق شعوراً بعدم اليقين داخل صفوف الحزب وبين عامة الناس.
 
يعرض هورنسبي بالتفصيل المناورات السياسية والمعارك الأيديولوجية التي ميزت هذه الفترة، لا سيما الصراع على السلطة الذي أدى إلى إطاحة خروتشوف من السلطة في عام 1964. ويقدم تحليلاً مقنعاً لكيفية تمثيل إطاحة خروتشوف ليس فقط تغييراً في القيادة، بل تحول في التوجه الأيديولوجي. وكان عصر بريجنيف الذي أعقب ذلك بمثابة عودة إلى سياسات أكثر تحفظاً، ما أدى إلى تقليص الحريات التي مُنحت مبدئياً خلال فترة الحرب على الستالينية. 
 
أحد الجوانب الفريدة في "الستينات السوفياتية" هو استكشاف الكاتب للنهضة الثقافية التي حدثت خلال هذا العقد، دارساً الحياة الأدبية والفنية والفكرية النابضة بالحياة التي ازدهرت في ظل سياسات الرقابة المريحة نسبياً في عصر خروتشوف، ومسلطاً الضوء على أعمال الكتّاب والمخرجين والفنانين الرئيسيين الذين ظهروا خلال هذه الفترة، والذين تجاوز الكثير منهم حدود ما كان مقبولاً في ظل الحكم الستاليني. يسلط المؤلف الضوء أيضاً على الثقافة السرية المزدهرة، بما في ذلك أدب ساميزدات (المنشور ذاتياً) ومناقشات "ثقافة المطبخ" التي أصبحت سمة مميزة للحياة الفكرية السوفياتية. ويقدم أيضاً وصفاً تفصيلياً لكيفية تشجيع الدولة لهذا الازدهار الثقافي وتقييده. فمن ناحية، سعت الحكومة السوفياتية إلى تعزيز "الواقعية الاشتراكية" التي كانت أكثر ديناميكية وإبداعاً من العقيدة الصارمة التي كانت سائدة في العصر الستاليني، ومن ناحية أخرى، ظلت يقظةً ضد الأعمال التي تعتبر انتقادية أو هدامة للغاية حيث يحظر التوتر بين الفن الرسمي وغير الرسمي كموضوعٍ متكررٍ في الكتاب، ويتنقل هورنسبي بعناية في تحليل العلاقة المعقدة بين الدولة والمثقفين.
 
في الوقت نفسه يقدم هورنسبي صورة حية للحياة اليومية في الاتحاد السوفياتي خلال هذا العقد، مصوراً التفاؤل والتحديات التي يواجهها المواطنون العاديون، ومناقشاً تأثير إصلاحات خروتشوف على مختلف الفئات الاجتماعية، بمن في ذلك العمال والفلاحون والمثقفون والأقليات العرقية. وهو يولي اهتماماً خاصاً لتجارب الشباب السوفياتي، الذين أصبحوا مسيسين بشكل متزايد وخيبة أملهم في النظام مع تقدم العقد. ويستكشف ظهور ثقافة شبابية متميزة خلال الستينات، تتميز بالأزياء الجديدة والموسيقى وأنماط الحياة التي غالباً ما كانت على خلاف مع الجيل الأكبر سناً والسلطات السوفياتية.
 
ويبين كيف طورت ثقافة الشباب هذه، رغم تأثرها بالاتجاهات الغربية، هويتها الفريدة في السياق السوفياتي. ويناقش أيضاً استجابة الدولة لهذه التغييرات، مسلطاً الضوء على محاولات استمالة ثقافة الشباب أو السيطرة عليها أو قمعها اعتماداً على مستوى التهديد المتصور الذي تشكله على النظام.
 
خارج مركزية الاتحاد السوفياتي في المعسكر الشرقي، يهتم الكتاب أيضاً بالديناميكيات الإقليمية التي شكلت فترة الستينات. ويناقش التجارب المتنوعة للجمهوريات السوفياتية خارج روسيا، مثل أوكرانيا ودول البلطيق وآسيا الوسطى والقوقاز. لقد عاشت هذه المناطق الستينات بطرق مختلفة، شكلتها سياقاتها التاريخية والثقافية والسياسية، تحولاً أساسياً شبيهاً في عقد الستينات. ومن المساهمات المهمة لكتاب هورنسبي مناقشته للإرث الطويل المدى للستينات من القرن الماضي بالنسبة إلى التاريخ السوفياتي وما بعد السوفياتي. فهو يجادل بأن فترة الستينات كانت فترة حاسمة شكلت مسار الاتحاد السوفياتي في العقود التالية، إذ لعبت دوراً محورياً في تشكيل مواقف الأجيال اللاحقة وتصرفاتها، بخاصة خلال عصر الغلاسنوست (الانفتاح) والبريسترويكا (إعادة الهيكلة) في الثمانينات في عهد غورباتشوف.