العالم الذي نعيش فيه اليوم مرعبٌ، دمويٌّ ومحفوف بنُذُر الحروب والهلاك. كنا نظن أن الحروب باتت خلفنا، منذ نهاية العالمية الثانية (1945) بهزيمة النازية وانتصار الحلفاء، بَيد أن الأهوال تواصلت، واشتعلت صدامات ونزاعات إقليمية، وحروب داخلية أيضًا.
وفي المجموع والمُجمل هي ساحاتُ معارك يسقط فيها عشرات الآلاف، حيث يختلط القتلة بالضحايا، وبدل العمرانِ تُرى المقابر على مدّ البصر يتحول الكوكب إلى ساحة وغى لا غير. وإذ تعود البشرية وحكّامُها إلى السلام وتستأنف حياتها كأنّ لا قطرة دم سالت ولا ملايين قُتلت، يأتي من يُذكِّر، يُحيي الذاكرة، ويُحذّر من النسيان، كي لا تتكرّر المأساة. وهنا صوت الأدب.
من ضمن روايات الموسم الأدبي في فرنسا، بدت رواية كمال داود الجديدة "الحور العين" أشبه بسرد موثق للعشرية السوداء التي عاشتها بلاده الجزائر في تسعينات القرن العشرين، وقد نشرنا مقالاً عنها بعنوان "كمال داود يخوض حرب الرواية"، حكى فيها كيف انتهت الحرب المقيتة بمصالحة بين الطرفين، وأريد لهذه الحقبة الدموية أن تُنسى، لكنّ النسيان هنا هو إخفاء للرأس صنيع النعامة في الرمال، لذلك كتب روايته حتى تتذكّر الأجيال ما حدث وتحتاط من شبح الفتنة.
ولكن ليس في الجزائر وحدها، بل في بلدان عدة ايضاً. هكذا تصدّى الكاتب Gael Faye الرُّوَاندي الفرنسي في روايته الجديدة Jacaranda (جاكارندا، غراسي، 2024) لحرب الإبادة التي عاشتها رواندا في التسعينات، وذهب ضحيتها قرابة مليون من أصول عِرق التوتسي. عُدّت هذه الحرب بضراوتها آخر حرب عرقية تشهدها البشرية. روايةٌ شهادة ٌوموقفٌ وإنسانية، وسردية متقنة، فاختيرت هي ورواية كمال داود في القائمة الأولى لجائزة غونكور وعند النقاد قريبًا منها كفرسيْ رهان.
في سنة 2016 أصدر غاييل فاي روايته الأولى، وهو موسيقي ملحن وكاتب كلمات، وفجأة نالت روايته "Petit pays" شهرة كبيرة وبسرعة صدرت في سلسلة كتاب الجيب للكتب الناجحة.
نصٌّ أقربُ إلى سيرة ذاتية لهذا الشاب ذي الجنسية المزدوجة، المولود في بوروندي، وحكى فيها سنين صباه ويفاعته في هذا البلد بجوار والده وخلِاّنه، ثم انتقل إلى وصف فظاعة عمليات الإبادة التي تعرّض لها التوتسي في الجوار، أي رواندا.
في عامنا هذا يعود فاي لينهل من النهر ذاته، ولكن أغزرَ وأقوى، مع حلول الذكرى العاشرة لعملية الإبادة الشنعاء وكان لها صداها في فرنسا بصفة خاصة بحكم صلتها بالنظام الحاكم يومئذٍ وصمتها عن المجزرة هي والقوة البلجيكية المستعمرة سابقًا. هذا ما يستدعي مرجعية تاريخية لأرضية وأسباب الجريمة.
سكّان رواندا
يتكوّن سكان رواندا من ثلاثة عرقيات أهمها: الهوتو (Hutu) والتوتسي (Tutsi)، وهذان العِرقان في صراع مستمر، يظهر فيه التوتسي أعلى مقامًا باعتبارهم ملاكُ قطعان، والهوتو مجرد مزارعين، وقدّم المستعمر البلجيكي السلالة الأخيرة وأولاها المصالح والتعليم وحرم الآخرين، وأقرّ بطاقة تعريف تعيّن الإتنية.
في الخمسينات، وبتأثير من الزعيم الكونغولي باتريس لومومبا، شرع التوتسيون وهم نخبة متعلّمة في مناهضة الاستعمار، ما أثار حفيظة البلجيكيين، فتحالفوا مع الهوتو ودفعوهم للتمرّد على خصومهم متهمينهم بالإقطاعيين.
في سنة 1959 أسّس غرغوار كايباندا حزب تحرير شعب الهوتو، ودعا إلى التحرّر من (استعمار) التوتسي وهذا قبل مغادرة البلجيك، ومنذ هذا التاريخ انطلق مسلسل العنف والتصفيات الدموية لعنصر التوتسي (خصوصاً في سنتي 1963 و1964) للقادة، أولًا، ثم عامتهم، ما دفع بعشرات الآلاف للهجرة إلى الدول المجاورة: بورندي، زايير وأوغندا.
في سنة 1973 تحت حكم الجنرال هابيا ريمانا تمّت حملة تطهير شاملة ضدّ التوتسي بطردهم من المدارس والجامعة والوظيفة. وفي سنة 1987 بعد رفض النظام عودة التوتسيين من المنافي أسسوا الجبهة الوطنية الراواندية، وبدأوا يستعدون للإطاحة بالجنرال ودخلوا إلى البلاد، حيث اندلعت الحرب سنة 1990، وتصدّى لهم الجيش بمؤازرة من قوات بلجيكية ومن زايير وفرنسية، خاصة.
وإذا كان تدخّل الأمم المتحدة قد أوقف الاقتتال بين الطرفين، فإن حادث سقوط طائرة الرئيس هابيا ريمانا وهو من الهوتو، أجّج الاقتتال من جديد، وهبّ الهوتو يقتلون أشقاءهم التوتسي في عملية إبادة استمرت مائة يوم منذ شهر نيسان، أبريل 1994 حصدت أرواح مليون من جميع الأعمار بلا استثناء بكل الأسلحة المتاحة، أغلبها ذبحًا ورميًا في مقابر جماعية وهروب مليونين.
مرجعية تاريخية
يتخّذ الكاتب من هذا التاريخ الدموي التّصفوي عرقيًّا، مرجعيةٌ مضمرة، يستخدمها مادة خامًّا أولًا، وإطارًا يبني داخله قصته ومجالًا لوجود وحركة الفاعلين ولتشخيص بالتخييل للحدث التاريخي وإحيائه في وعي المتلقي، ومنه إلى الرأي العام القارئ للتذكير ضدّ النسيان.
ميلان هو البطل/ الراوي، يقود السرد من طفولته إلى عتبة الكهولة، فيحكي قصة أربعة أجيال، أبوه فرنسي وأمه رواندية هاجرت إلى فرنسا قبل عشرين عامًا.
تقرّر الأم الذهاب إلى مسقط الرأس في العاصمة كيغالي، بعد أن آوت وقتًا فتىً أُرسل إليها يحمل ندبًا كبيرًا من عملية الإبادة، وسنعرف أنه أخ لها من أبٍ آخر، ويألفه ميلان.
بعد سنوات يقرّر الذهاب إلى رواندا ليتعرّف من كثب على أصوله، فيلتقي مجددًا بالأخ كلود، والجدة، ويشرع في تعلّم أبجدية البيئة الرواندية والحياة اليومية وطقوس العيش، لافتًا الأنظار فهو أبيض خُلاسي في مجتمع السود.
تدريجيًا سيندمج في هذا المجتمع من خلال كلود (التوتسي) الذي قُتل جميع أفراد عائلته، وشاغله الانتقام لهم من الهوتو، ومع الملقّب سارتر، شخصية طريفة هاوي القراءة والموسيقى، يحتل بيتًا كبيرًا يسمّيه القصر، يرعى فيه المحرومين والفتيان الناجين؛ ثم الطفلة ستيللا ابنة أوسيبا المرأة التي قُتل زوجها وأبناؤها في حملة الإبادة العشواء. ولا ننسى "مامي"، جدة ميلان، محفل ذاكرة ما جرى، لكنها تتكتم عليه هي وأم ميلان.
يقرّر اذًا البقاء في رواندا بل يحصل على الجنسية رافضًا دعوة أبيه بالرجوع إلى باريس لتدبير مستقبله العملي، منصرفًا إلى البحث عن جذوره بعدما ووجه بصمت العائلة، وبرفقة أخيه كلود يستعيد صور وحلقات تقتيل التوتسي، ثم المحاكمات الشعبية للهوتو، والكشف عن مشاهد مريعة لجناياتهم ضدّ أبناء بلدهم.
تنتقل الرواية إلى الجيل الرابع المرصود، وتنتهي بمعرفته لأصول أمه وجدته والعودة إلى باريس، حيث سيحس بالغربة ويواري أمه التراب بعد مرضها، وكأنه يطوي معها تاريخًا كاملًا.
الحق أنه لا يطوى، يقيم في ذاكرة ستيلا التي كبرت ولا تستطيع نسيان جدتها روزالينا وحزنها لا يُشفى على شجرة الجكارندا في مدخل البيت، كانت تتسلقها وتبثّها خواطرها ثم اقتُلعت بينما ظلّت جذورها ممتدة في قلبها ووعيها.
في روايةٍ مختزلةٍ وجامعةٍ بين السرد التاريخي والوصف الواقعي والصمت العميق الناطق، والبياضات المعبّرة، والشخصيات الأيقونية، والحوارات الإبلاغية والإشارية، والتنقل بين اللغات (الوطنية المحلية، والفرنسية) أي بين ثقافتين ومثاقفتين، كتب الشاب فاي رواية مأساوية تبدو قصتها في الظاهر جزءًا من الماضي. أما شبح مخاوفها فلا يمّحي، فالصراع العرقي في كمون، وهناك قوى شريرة وظالمة لا تزال تكرّر الإبادة في العالم، وإلّا ما الذي حدث ويحدث في غزة، مقتلة ستكتب غدًا لوحة دامية؟!