النهار

النهار

سعيد نوح يبني المدينة الشّعبية بواقعيّتها الغرائبيّة
يسري عبدالله
يسري عبدالله
المصدر: القاهرة- النهار العربي
من الهوامش القصية، التي أسميتها من قبل هوامش ما بعد القاع، ينطلق الروائي المصري سعيد نوح، وبدت المدينة الشعبية بثقلها وزخمها وطبقاتها الاجتماعية المتداخلة مسرحاً لأعماله الروائية من قبيل "كلما رأيت بنتا حلوة أقول يا سعاد"، "٦١ شارع زين الدين"، "دائما ما أدعو الموتى"، أو حتى في مجموعاته القصصية التي حوت هي الأخرى شخوصا ممثلين للمكان الهامشي، من قبيل حنفنف ونجلاء وصفر في مجموعته القصصية "الصنف... حكاية الملاك والصبية".
سعيد نوح يبني المدينة الشّعبية بواقعيّتها الغرائبيّة
لوحة للفنان أدهم رجب
A+   A-
من الهوامش القصية التي أسميتها من قبل هوامش ما بعد القاع، ينطلق الروائي المصري سعيد نوح، وبدت المدينة الشعبية بثقلها وزخمها وطبقاتها الاجتماعية المتداخلة مسرحاً لأعماله الروائية من قبيل "كلما رأيت بنتا حلوة أقول يا سعاد"، "61 شارع زين الدين"، "دائماً ما أدعو الموتى"، أو حتى في مجموعاته القصصية التي حوت هي الأخرى شخوصاً ممثلين للمكان الهامشي، من قبيل حنفنف ونجلاء وصفر في مجموعته القصصية "الصنف... حكاية الملاك والصبية".

وهنا في روايته الجديدة "كفر هلال... رجال أتلفها الهوى" (دار بتانة)، يرتحل سعيد نوح إلى وجهة مغايرة عن مجمل النتاج الإبداعي له، حيث تبدو القرية بديلاً للمدينة، وعوضاً عن تبايناتها، وتمايزاتها الاجتماعية، متخذاً من مكان واقعي "كفر هلال"، الواقعة في زمام محافظة المنوفية، مركزاً للحكي.

لكنّ القرية الحاضرة هنا تتخذ بعداً تخييلياً بامتياز، ولطالما كان الواقع الاجتماعي في الريف المصري متخماً بالأسطورة الشعبية، والحكايات المفارقة للواقع، فضلاً عن مخزون الثقافة الشعبية ذاتها، ويعدّ علم الاجتماع الريفي طرفاً أصيلاً في دراسة العادات والتراث المتمترس في المجتمع القروي.
أما  العنوان الفرعي للرواية "رجال أتلفها الهوى"، فيحيلك إلى الجملة الساخرة في ثلاثية نجيب محفوظ، والتي وردت على لسان السيد أحمد عبد الجواد "بضاعة أتلفها الهوى". غير أن العنوان هنا "رجال أتلفها الهوى"، يتجاوز تيمات العاطفة والشوق واللذة، إلى الزيغ والميل، والسقوط في منتصف الطريق. لذا سنجد المآلات هنا مروعة، من الموت حرقاً، إلى الانتحار، إلى التلاشي.

 

 

الاستهلال المراوغ
بدءاً من الاستهلال الروائي، ووصولاً إلى المختتم السردي، يحيل سعيد نوح عالمه الريفي إلى عالم يضع قدماً في الواقع، وأخرى في الخيال، عبر اللعبة الفنية التي اتكأ عليها في بناء روايته، والتكنيكات التي اعتمدها، فلا جزم بشيء هنا، والكتابة تقع في تلك المسافة الحرة بين الواقع، والمتخيل.
يبدأ سعيد نوح روايته بإشراك متلقيه في التساؤل المنطلق من العنوان "ما كفر هلال"، ويبدأ السرد الخبري بعدها في التطواف بين تنويعات عدة حملها الاسم، حيث يبدأ السارد الرئيسي في البحث عن اسم المكان الروائي المركزي لنصه على الشبكة العنكبوتية، لتخرج له نتائج مختلفة، يخلق من خلالها دوائره السردية في المفتتح المراوغ الذي ينطلق منه: "ما هي كفر هلال تلك؟
هل هي ذُكرت في القرآن مثلاً؟
هل هي شقيقة رضا هلال الذي ما زال مفقوداً؟
بعد السؤال الذي ظهرت إجابته على غوغل، أنتهي بالحقيقة التي أفزعتني وجعلت فرحي يفوق حزني. أعلمكم يا سادة أني لم أجد لهلال هذا أي معرفة سابقة في التاريخ. ربما كان أشهر شيء له لا يمت له بصلة، ألا وهو هلال رمضان. ذلك الذي كان ينتظره الملايين في ما سبق. تبدأ الحكاية والعائلة الصغيرة لا تعرف كيف مضى الجد في طريقه مع حفيده الصغير هلال. فقط عرفوا مثل الآخرين أنه غادر سرير المرض على عجل، وكأنه في طريقه لمهمة رسمية. لم يطلب من زوجته أو ابنته أن يساعدوه في ارتداء ملابسه، فقط استمعوا إلى إغلاق الباب الكبير فانتبهوا إلى عدم وجود الرجل الكبير. لمحته الزوجة بعدما جرت إلى الباب يمضي ويمسك بيد حفيده. منعتها الملابس التي كانت ترتديها من الخروج خلفه".

 



 ألعاب السرد

يأتي المختتم السردي مراوغاً أيضاً، حيث نرى الكاتب يذيل نصه في صفحة 199 بتوقيعه، ومكان كتابته للنص أيضاً كما العادة في نصوص عديدة نقابلها، حيث نجد هنا "سعيد نوح.. عين حلوان 2009 إلى مارس 2011"، غير أن النص يستمر وتتواتر حلقات سردية جديدة، تبدو أشبه بالملاحق، أو الاستدراكات على الكتابة، ويسميها رتوقاً، وكأنها سد لفجوات نصية في المتن، فنجد هنا "رتقاً أولَ، رتقا ثانياً، رتقاً ثالثاً..."، وصولاً إلى النهاية الفعلية للرواية "الرتق الذي لا أعرف مكانه المحدد" (ص 237)، مذيلة بتوقيع جديد، للكاتب وتاريخ جديد أيضاً، في لعبة فنية، تعتمد الكشف، والسخرية، وتقديم الحدث الروائي على دفعات، وليس دفعة واحدة، بل الإحالة على نصوص أخرى للكاتب، وكسر الإيهام بين النص والمتلقي: "لا أعرف لماذا تستهويني الألعاب الروائية، فداخل كل عمل كتبته كانت هناك ألعاب، ربما جاءت بالخراب على العمل ذاته، كما حدث مثلاً في رواية أحزان الشماس....".(ص 200).
تنهض (كفر هلال... رجال أتلفها الهوى) أيضاً على تكنيك (البورتريه السردي) في رسم ملامح الشخوص، وعلاقتهم بالمكان، والتوصيفات الممتدة للأجواء المحيطة بالنص.
ثمة زخم من الشخوص، يشكلون خريطة الأحداث والمواقف السردية من هلال إلى الجد إلى أبو خطوة، إلى الأصدقاء الثلاثة ورابعهم الذي مات مبكراً، فترك ندوباً في أرواحهم، إلى منشد الخص، إلى أم الخير أيقونة الشر، إلى محمد راديو، إلى نرجس، وهكذا..
يوظف الكاتب تكنيك التفاعلات النصية في المقطع الأخير من الرواية، ويكسر أفق التوقع لدى المتلقي، ويلغي المسافة بينه وبين النص، فيحيل على روايته الشهيرة (كلما رأيت بنتاً حلوة أقول يا سعاد)، موجهاً خطابه السردي إلى جمهرة القراء، منتقلاً إلى توجيه الخطاب في الجملة الأخيرة إلى متلق محدد (الابنة): "كانت تلك اللحظة في نص ينتهي به العمل، أتدرون يا سادة ذلك التاريخ هو يوم موت سعاد أختي التي كتبت عنها روايتي الأولى "كلما رأيت بنتاً حلوة أقول يا سعاد". فقط سر صغير أقوله لابنتي سعاد التي ولدت في اللحظة نفسها التي غادرتني فيها سعاد، ولكن بعد عام واحد: سعاد عمتك يا صغيرتي أخذت حياتي معها؛ لهذا وأبداً لن تري أباك الذي أحن إليه".
تتسع مساحات اللعب التقني في "كفر هلال.. رجال أتلفها الهوى"، ويعاين فيها سعيد نوح عالماً مثقلاً بالوحشة، وواقعاً معبأً بالخيال.