النهار

معرض الفنانة ساره بدر شميدت يبحث عن معنى الوطن
مهى سلطان
المصدر: النهار العربي
يستوي معنى البيت والوطن كرديفين لحال الفراق، إنّها ليست الوداعات بل الاستذكارات التي تتجلّى في معرض الفنانة المفاهيمية ساره بدر شميدت، في غاليري أجيال (شارع عبد العزيز- حتى 18 أيار/ مايو)، تحت عنوان we left home…but what is home "رحَلنا عن الوطن ولكن ما هو الوطن؟".
معرض الفنانة ساره بدر شميدت  يبحث عن معنى الوطن
الفنانة ساره بدر شميدت
A+   A-
 
يستوي معنى البيت والوطن كرديفين لحال الفراق، إنّها ليست الوداعات بل الاستذكارات التي تتجلّى في معرض الفنانة المفاهيمية ساره بدر شميدت، في غاليري أجيال (شارع عبد العزيز- حتى 18 أيار/ مايو)، تحت عنوان  we left home…but what is home "رحَلنا عن الوطن ولكن ما هو الوطن؟".
 
يضمّ المعرض مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأعمال التجهيزية متعدّدة الوسائط: من بينها رسوم وأفلام فيديو وكتابات نصيّة وسجاديات ومنحوتات برونزية وصور فوتوغرافية، تُمشهد تيمة متعلقة ليس بذاكرة الطفولة والأمكنة فحسب، بل بتداعيات الحرب وقضية التعلّق بالمكان وتمزقات الانسلاخ عنه، مما يطرح بعمق جدلية العلاقة بين الوجود والهوّية وبين الارتباط والاقتلاع، بقوة البساطة التي تتمتع بها الفنانة في الطرح المفاهيمي لأفكارها، وبالحميمية التي تلامس بها أعمق أعماق القلب.
 
هي تتقصّى الحقائق وتستحضرها من تجاربها الشخصية ومن حكاياتها وتفاصيلها وأشيائها المتروكة التي لم تعد موجودة سوى في ضباب الذاكرة وربما في قعرها او مياهها النائمة. 
 
تقول الفنانة: "هذا المشروع حول عنف الحرب الذي تعرّضنا له في مرحلة الطفولة، وانعكاساته على بناء الكائن. ويتمّ قمع الصدمة الناتجة، حيث أنّ الطفل دائماً ما يعطي البالغين انطباعاً بالتكيّف. بسبب الحرب في لبنان وبسبب أصولي المتعددة، كنت أتنقّل دائماً بين الشرق والغرب. يحاول هذا المشروع نقل مشاعر كون المرء مجبراً باستمرار على الابتعاد عن بيئته وأصدقائه ومنزله، والشعور بالخوف المنقوش في أعماق كيانه. ينتهي بك الأمر إلى عدم معرفة المكان الذي تنتمي إليه، بينما تحاول التأقلم معه يتمّ قبولك في مكان جديد".
 
يتخذ المعرض طابعاً بيوغرافياً من حيث الاعترافات والبوح، جماله يكمن في سرديته، وهو يستكشف موضوعات من السيرة الذاتية لإثارة المزيد من الأسئلة الشائكة حول مفاهيم الهوية والانتماء، بوسائط فنية ومواد متنوعة جنباً الى جنب مع نصوص أدبية وشعرية تكتبها الفنانة بلغات ثلاث هي لغات البلدان التي عاشت فيها، تكتبها على ورق الكربون لكي تظهر الكلمات بمثابة "أثر". 
 
هذا الأثر مرتبط أيضاً بدفتر والدها الطبيب اللبناني الذي كان يكتب للمرضى- كما جرت العادة قديماً- الوصفات الطبية للأدوية على ورق الكربون، يُضاف إلى ذلك أعمال النسيج والفنون التطبيقية، وهي أعمال اكتسبتها الفنانة من مخزون عائلة والدتها السويدية.
 
في إحدى قصائدها كتبت ساره: "الخيوط منسوجة حولي، شبكة واقية. شبكة ملونة. خيطان تطريز جدتي، ألعاب نارية داخل صندوق معدنيّ قديم". 
 
 
 
 
 
الطفلة تتذكر
"المكان الأليف هو بيت الطفولة الذي ولدنا فيه وتَشكّل فيه خيالنا وهو ظلّ عالم الروح"، بحسب تحليلات الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، الذي ميّز بين مستويين من المكان: معمارية المكان التي تعني أبعاده الهندسية والجغرافية، إذ يتجلّى بوصفه كياناً هندسياً واقعياً، وشاعرية المكان أي بيت الطفولة الذي يركّز الوجود داخل حدود من شأنها أن تمنح الحماية. يتراءى هذان المستويان المعماري والشعري على السواء في معرض ساره بدر شميدت، حين تضع خارطتين هندسيتين لبيتين: أحدهما في الأشرفية- شرقي بيروت، والثاني في شبه جزيرة شمالي السويد، وكلاهما  للمصادفة يتخذان شكل المربّع، والرسمان مرفقان بكود موقعهما الجغرافي على خارطة "غوغل". ثم تقوم بتصميم عمل تجهيزي عبارة عن ماكيت مبسط لمربعين بلا سقف، تفصل بينهما شرائح زجاجية، إحداها مخروقة بالرصاص للدلالة إلى الحرب.
تصف الفنانة هذا العمل بالقول: "في بيروت كانت الشقة بأكملها مغمورة بالضوء، وذلك بفضل الأسقف العالية والأبواب الزجاجية. سجادة فارسية غطّت أرضية غرفة المعيشة... السماء كانت هي الرباط الذي ينقلنا من أحد أطراف العالم إلى الطرف الآخر. في دالارو- السويد، كان المنزل يقع على شاطئ البحر في شبه جزيرة، وكانت حديقته بارزة في البحر. لقد تمّ تخيّله بالتناضح مع المناظر الطبيعية الخارجية للصخور والسماء والبحر والأشجار وصرخة طيور النورس. مكانان هما ركيزتان لهما نقاط ترابط عميقة ظهرت أساساتها على أرض محدّدة".  
 
 
 
لكل عمل حكاية 
ينطلق معرض ساره بدر شميدت (لبنانية- سويدية تقيم وتعمل في باريس) من فكرة الارتحال والتعلّق بالمكان، من خلال تسليط الضوء على بيت العائلة في بيروت، وهو بيت قديم مصنّف "تراثياً"، تُرك لكي يتداعى ثم باعه الورثة ولم يعد موجوداً، والمنزل الثاني الذي كانت تُمضي فيه ساره كل العطل الصيفية في شبه جزيرة في السويد قريب من استكهولم، الذي بيع أيضاً وتمّ تدميره من الجهة المالكة، كلاهما دُمّرا في عام واحد قبل عشر سنين. 
أثار هذا التدمير لدى الفنانة أسئلة كثيرة حول طبيعة حياتها المتنقلة بسبب الحرب ما بين بيروت والسويد وفرنسا، وأثار لديها ذكريات الطفولة التي أمضتها على وقع رصاص القنص ودويّ المدافع ومن ثم الهجرة والاقتلاع وتحدّيات الإقامة في الغربة. 
 
تقول الفنانة: "لقد عشت على إيقاع الحرب. لقد ملأت هذه الكلمة بصوت المدافع، بطعم الخوف، بصور الخراب، رائحة الهروب، الشعور بالهجر. صوت الحرب هو أيضاً صوت الصمت، الذي يغلّف طعمه العفن. ألوان الحياة تتحدّى سواد الحرب وتكشف عن عبثيتها".
 
أولى الرسوم التي ظهرت بشكل عفويّ هي عن طفلة تتذكّر، ومن خلالها تروي الفنانة عن الانسلاخ من المكان، ثم تنطلق من الرسوم ذات الطابع الفطري لتحاكي روايات طفولتها  في مجموعة من السجاديات ذات الملامس الناعمة- الدقيقة والطبقات والتدرجات (من الصوف والكشمير والحرير- منفّذة في أحد محترفات النسيج في النيبال)، تجسّد مشاهد من شخصية الطفلة التائهة في حقول ذكرياتها المشمسة والوردية.لكل لوحة قصة ولكل قصة نص يرافقها.
في النص الذي يحمل عنوان we left home 1 "تركنا البيت الأول"، تكتب الفنانة: "طاولة وأرجلها الأربع. عادةً ما نجلس حولها.. ولكنها اليوم بمثابة ملجأ، لعدم وجود كلمة أفضل، ملجأ نفسي أكثر من ملجأ حقيقي، لتغطية الرؤوس المذهولة من الحرب المستجدة وضرورة حماية النفس.
عادةً لا تمطر في نيسان/ أبريل في بيروت، لكنها اليوم مطر من نوع آخر، أكثر صلابة ومعدنية، مطر القذائف تحت سماء زرقاء تقودها الحرب. هذه الطاولة هي تلك الموجودة في غرفة طعام عمي، حيث جلست تلك الفتاة الصغيرة البالغة من العمر 7 سنوات في 13 نيسان/ أبريل 1975، مرّات عدة لتناول طعام الغداء. واليوم، يبدو الواقع مختلفاً تماماً عندما ننظر من تحت الطاولة، وخشب درجها الداكن، والوجوه الداكنة للبالغين الذين يحاولون إخفاء فزعهم تحت وجوه جدّية. يتخلّل الصمت صوت الرصاص الحاد ثم الباهت، وصوت طبول القلب الذي ينبض بسرعة، بسرعة كبيرة، مستجدياً ابتسامات الكبار المُطَمئنة".
 
وفي نص بعنوان "غادرنا البيت 5" تقول: "تستيقظُ ولا تعرف إذا كنتَ تريد سماع صوت القنابل أم لا، ذلك الصوت الذي يعني "لا مدرسة" ولكن أيضاً "الحرب" والصوت الهادئ يعني "نحن ذاهبون إلى المدرسة". وفي بعض الأيام، يرتفع الصوت الخافت الذي يقول "ليت هناك بعض أصوات القنابل"، حتى لا أذهب إلى المدرسة. 
 
يتصدّر المعرض عمل تجهيزي مكون من لوحة لشجرة الكرز المزهرة التي رافقت طفولة الفنانة في ملعب المدرسة في فرنسا، وسجاديّة على الأرض تمثل انعكاساً مرآتياً لصورة الشجرة على سطح الذاكرة، فتبدو كحقل لوني كبير من الأزهار الوردية الممزوجة بزرقة السماء وألوان الطبيعة. وفي ذِكر البيت تستشهد ساره بدر شميدت بعنوان رواية ميلان كونديرا "خفّة الوجود التي لا تُحتمل"، فتتدخل في تغيير عنوانها إلى "عدم خفّة الوجود التي لا تُطاق"، كي تجسّدها رمزياً بالحلزون الذي يحمل بيته على ظهره، في مجموعة من المنحوتات البرونزية لستة حلازين إحداها بلا بيت، إشارة إلى الارتحال. هذا العمل يمثل استعادة واقعية لسنوات اللعب التي أمضتها في حديقة بيت العائلة في السويد "العطلات. مطر أو شمس، ولكن دائماً سلام لا يتزعزع تتخلّله زيارات من السناجب. ولإبعاد الملل، أقوم بتنظيم سباقات للقواقع التي أخرجُ لجمعها في الأيام الممطرة، وأضعُ أرقاماً على الصدفة، وأراقبها خلال هذين الشهرين الصيفيين اللذين يمتدان إلى أجل غير مسمّى كل عام بسبب الحرب في بيروت".
 
"رحَلنا عن الوطن ولكن ما هو الوطن"، المعرض الذي استغرق إعداده اكثر من سنتين، هو في مقاربته بمثابة "بحث عن الزمن المفقود" (عنوان مستعار من أشهر رواية للكاتب الفرنسي مارسيل بروست)، بكل ما يضجّ به من تفاصيل وتجارب وأحداث ويوميات "بعيني الفنانة صاحبة البصيرة،ـ كما يصفها المدير الفني صالح بركات- فإنّ المكان والانتماء والهوية بكل تعقيداتها تكتسب الحميمية والفردية، بينما تتحدث في الوقت نفسه عن القضايا الاجتماعية والثقافية الأوسع"، مما يثير الأسئلة أكثر فأكثر حول مأساة النزوح بسبب النزاعات والعنف والحروب والكوارث الطبيعية. لذا تدعو الفنانة ساره بدر شميدت في رسالتها إلى المجتمعات المتحاربة والمتقاتلة على الأرض إلى النظر إلى السماء، حيث الحلم بلا حدود. أما الوطن فهو مقيم فينا لئن غادرنا أوطاننا فهي لا تغادرنا.  
 

اقرأ في النهار Premium