إلى أين تأخذنا هلا عز الديّن في معرضها الجديد "بورتريه بيروت"، الذي يُقام في غاليري صالح بركات (كليمنصو- شارع جوستينان حتى أواخر شهر أيار/ مايو)؟ هل تأخذنا إلى نفسها المعذّبة أم إلى بيروت بشوارعها وأبنيتها؟ أم إلى دهشة غريبة صاعدة مثل نغمة شاذة عن الواقع المرئي، إلى قلب الذاكرة التي تخون ما يمكن أن نتوقعه حول عنوان المعرض؟ هل تقودنا إلى ما يتخطّى التسميات والأمكنة ويتحدّى الواقع والأزمنة؟ إلى عالمها الفني المنبثق من عينيها وطموح ريشتها وجرأتها في اقتحام أبواب اللوحة من مصراعيها ومن قعرها إلى أوجها؟ أم إلى حرائق ألوانها أم إلى أسرارها الصغيرة المخبأة في حضن بيروت، حيث ضوء شمس صباحها لا يشبه أي صباح في مدن العالم. والسؤال الأهم، هو كيف ترى الفنانة بيروت؟ هل من الخارج كمنظر مديني أو من الداخل كنمط عيش وطريقة حياة؟
ثمة حركة وضوء وألوان وخطوط هوجاء هائمة ومتشابكة، ثمة أبنية مائلة على وشك السقوط وأخرى أكلها الزمن، حوائطها متداعية قائمة على أرضٍ حطامها من فوضى أخّاذة. إنّها الانطباعات الأولية التي تفاجئ العين في معرض الفنانة هلا عز الديّن، تحت عنوان "بورتريه بيروت"، ويضمّ مجموعة من اللوحات والرسوم (بالأسود والأبيض)، تجسّد مناظر تجريدية مستوحاة من غلواء مشاعر رسّامة ذهبت إلى الماضي القريب أكثر من الحاضر، في رؤية المحيط المديني لبيروت من مقترباتها التعبيرية والشعرية والدراماتيكية، المتحرّرة من العواقب، الموغلة في العبثية والتفكيك والتحطيم وإلقاء الحمم اللونية والحفر في أرض اللوحة ونبشها، لاستخراج المعنى الأعمق للفن، وإشعال الضوء الذي يبدو في حال العصيان والتألّق المتأجج.
بيروت في نيسان
المشهدية المأزومة
لا راحة ولا هدوء ولا صفاء ولا مهادنة بين الريشة وعصفها المتحرّك وضربات خطوطها القاسية، بل اختناقٌ وضيق، مع دأب وسعي مستمر لدى الفنانة في التقاط مشاعرها وشغفها المحموم بالألوان، ورؤاها الذاهبة إلى المزيد من التأويل والانفعال والارتجال والتصعيد القاسي والمحتدم مراراً وتكراراً، بأسلوبها الذي لا يكتفي في توغّله وهو يبتعد عن السردي- التشبيهي المباشر، ويتجّه إلى التجريدي- الانتقائي الذي يستوحي من الواقع بعض مفرداته الشكلانية، مهما كانت بسيطة، ويأخذ من خصائص المكان، نبضَه وتكوينه الخطي ومناخه العام، ولا سيما "تقلّبات الضوء" في طبيعة بيروت المتوسطية، التي تبدو بنظر الفنانة مسألة أساسية وجوهرية.
وهذه التقلّبات التي تنعكس بقوة في إنشاء العلاقات اللونية، على احتمالات شديدة التنوع في إضفاء الحيوية الظاهرة على المنظر المديني.
إنّه المنظر الذي كثيراً ما يبدو عبثياً مبنياً على الدُّكنة والألوان الليلية الظليلة، كي تنبثق من اعطافها مساحات الأحمر النارية والأرجوانية، ويلعب اللون الأصفر الحار المضيء بقوة، ويشدو كما يحلو له أن يشدو أو يصرخ تحت سماء زرقاء ضيّقة او سماء رمادية فسيحة، في مشهد مكوّن من الأنقاض، بل مشهد الفناء الخالي إلّا من صوت الريح.
الإيحاء باللوحة يبدأ من تنقلات الفنانة التي تنطلق من الحي الذي تقطن فيه (جوار منطقة الصنائع)، حيث حديقة وأشجار، ثم لا تلبث أن تأخذها الخطى إلى مختلف الأحياء الداخلية لبيروت وساحاتها لقراءة معالمها، من برج المرّ المتعالي، الذي يبدو مخيفاً في فراغ المحيط الذي يجاوره كفراغ متضائل ومريب، إلى شجرة عامرة في شارع مار الياس، ثم إلى محيط فندق الهوليدي- إن، الذي ما زال شاهداً على أهوال الدمار في حرب السنتين، وصولاً إلى منطقة مار مخايل والأبنية المدمّرة الواقعة على الواجهة البحرية، ومحيط مبنى إهراءات القمح في مرفأ بيروت الشاهد على انفجار 4 آب 2020.
هكذا تنطلق الفنانة من كيانها الصغير، الذي لا يلبث ان يتعاظم حين تواجه قماشتها وتبدأ في التقاط معالم المنظر البيروتي الذي لفتها بل أسرها. من حركة المارة في الشارع والأبنية التي تحمل بصمات الحرب وألوان الصباح والمساء، إلى الرؤية البانورامية لبيروت من سطوح الأبنية، ومن نوافذ الروح.
هكذا تبدأ لوحات الفنانة من نظرتها إلى المدينة، من تسكّعها ومن قراءاتها لمعالمها وأشكالها، بكل تناقضاتها وعشوائية البنى المعمارية فيها وخلوها من التنظيم، ويا للمفارقة، بيروت هذه برغم تلك العشوائية والغوغائية والتداعي، ما زالت جميلة ومُلهمة، على النحو الذي يتراءى بالأسلوب التعبيري الخاص لهلا عز الديّن (المولدة في عرسال- البقاع 1989)، التي تُعتبر من الرعيل الجديد لجيل المعاصرة، وما أضافته من ميزات في رؤية عالمها من منظورها الشخصيّ النابع من تأمّلاتها ومزاجها في طريقة تطبيق الطلاء بشفافية على مراحل متتالية، تعكس غالباً طبقات التأسيس الأولية، بقدر ما توحي قماشتها بجمالية سرعة الانقضاض اللوني وطاقة الحركة والتّنقل، والأهم هو اشتغالها على طبقات السطح، ما يزيد من قوة الألوان وحرارة تناقضاتها وتنوّع مقاماتها ما بين الأعماق والأرضية والقطاع السماوي، من دون اللجوء إلى التعجين اللوني الذي يميز غالبية أعمال التعبيريين من الرسامين اللبنانيين والعرب.
إذ إنّ قماشاتها اللونية ساطعة دون كثافة ظاهرة، فالضوء ينبع من قوة اللون نفسه ومما يجاوره، بل إنّ صفة التناغم والالتحام والتشابك تجعل من لوحة هلا عز الديّن منسجمة مع عاطفتها الجياشة التي تنعكس على منحنينات الخطوط وتكسّراتها. وكأنّ هذا الحطام الخطوطي أضحى جزءاً لا يتجزأ من لعبة التأليف في تكوين المنظر.
محيط فندق الهوليداي
قل لي كيف ترى بيروت أقل لك من أنت
لبيروت أوجه عديدة لا تُعدّ ولا تُحصى. وهنا إشكالية الطرح الذي يتجاوز الخاص إلى العام، على ضوء اختلافات زوايا الرؤية ووجهات النظر والتجارب والعلاقة بالمكان والمحيط. وكأنّ لكل منا شعوراً أن ما يُقدّم عن بيروت لا يكفي. هكذا تستمر حكاية بيروت التي لا تنتهي.
ثمة تناقض لا مفرّ منه بين عنوان المعرض ومحتوياته، بسبب ذلك التداعي الدراماتيكي الذي يعيدنا إلى ذكرى انفجار مرفأ بيروت (4 آب 2020)، وهو تداعٍ لا ينفك يخاطب أعيننا يومياً في مشاهد دمار غزة. ولكن إذا تفحّصنا المدينة كما تَفحَّصتها هلا عز الديّن، سنكتشف أننا لم نتخط بعد عتمة ليالي بيروت، بسبب انقطاع الكهرباء ومشهدية الدمار الذي ما زال ماثلاً أمام أعيننا، ولكننا لم نعد نراه أو أننا لا نريد أن نراه، ولكن ذلك لا يعني انّه غير موجود، سوى انّ تعلّقنا ببيروت، يجعلنا نعيش أجمل ما فيها، وهو الجمال النابع من قدرتنا على تخطّي الألم وتجاوز الأزمات. وفي هذا السياق، فإنّ المشهدية المأزومة التي تقدّمها هلا عز الديّن، هي عمل ذو قيمة فنية عالية، كتعبير وقدرة على التأويل وإثارة الصدمة والتوهج في آن، وزحزحة الأفكار عن مصطلحاتها الأليفة، ولو كانت بنمطية واحدة من التعبير اللوني والجمالي لا تتخطّاها سوى بالرسوم التي تتفوق احياناً في خطابها البصري على صخب العالم اللوني في لوحات الاكريليك.
تتجّه هلا عز الديّن في محاكاة المشهد البيروتي بلغة الأسود والأبيض، صوب تناغمات لامتناهية في تحريك مفاصل المشهد وذبذباته وارتجاجاته بين الرسم بقلم الرصاص والمحو لاختراع الادغام الضبابي للأسود، وكذلك لتشكيل الفراغ الداخليّ. هكذا بين الرسم والمحو، تتجرّد معالم المنظر الذي يمثل بخطوط وظلال وبقع ضوء، في تكوين متناثر ومتآلف، لا يشبهه في فنائه الشكلاني واضطراباته الغرافيكية واهتزازات مفاصله وتكسرات خطوطه القصيرة المدى، سوى القصائد البصرية لكتابات الشاعر والرسام هنري ميشو، الشبيهة بالأنفاس.
الواقع أنّ هلا عز الديّن قد بدأت ترسم وجه بيروت منذ سنوات خلت، حين كانت في حال الحزن بعد الانفجار العظيم، وما زالت ترسم وجه المدينة البائس، الشبيه ببؤس وجوه أطفال النازحين السوريين الذين رافقتهم ووقفوا موديلات أمامها، فرسمت وجوههم التي جسّدت من خلالها أهوال المآسي التي عاشوها من جراء الحرب الدموية في سوريا، التي طبعت ذاكرتهم وبراءة محياهم بالفقر الذي يلوح من ملابسهم الرثة وابتساماتهم الباكية.