لعلّ شخصيتها المثيرة للجدل والهالة التي رافقت نتاجها التجريدي رسماً ونحتاً، ومعارضها العربية والدولية التي أقيمت بعيد رحيلها، قد صرف النظر عن التركيز على جانب مهم من جوانب إبداعات الفنانة سلوى روضة شقير (1916-2017)، ألا وهو "فن التصميم".
وهذا الفن هو الذي شكل التيمة الأساسية لمعرضٍ جديد نظمته ياسمين نشابة طعّان - أستاذة في الجامعة اللبنانية الأميركية (LAU) ومديرة معهد الفن في العالم العربي فيها - لمناسبة الاحتفال بمئوية الجامعة، مرفقاً بصدور كتاب يستند في معلوماته إلى النصوص التي كتبتها الرئيسة السابقة لقسم الفنون في الجامعة ماهرنغيز إيراني، فضلاً عن اجتهادات قدمتها نشابة في ما يتعلق بفكر الفنانة المتأصل بالتجريد وعلاقته بابتكاراتها في عالم المواد ووظائفها.
أقيم المعرض في قاعة مبنى الجزائري، متميزاً بطابعه الاستكشافيّ والأكاديمي المُتقن، إذ تم بالتعاون مع بعض طلاب الجامعة والمتخرجين والأساتذة المتخصصين في قسم الفنون والهندسة الداخلية والسينوغرافيا والتصميم، مشتملاً على مجموعة واسعة من الأعمال المجلوبة من محترف الفنانة وخزائنها وأرشيفها من وثائق وصور فوتوغرافية وكتب وصور مستنسخة من بعض نتاجاتها وتصاميمها، فضلاً عن أعمال أصيلة تعرض للمرة الأولى من مقتنيات مجموعة ابنتها هلا شقير التي ستشكل نواة المتحف الخاص للفنانة سلوى روضة شقير الذي سيُفتتح في صيف 2024.
ياسمين نشابة طعان مع سجادية من معرض فن التصميم للفنانة سلوى روضة شقير
الفن في متناول الجميع
ما قدمته سلوى روضة شقير من تنويعات هائلة في فن التصميم تضاهي تصاميم نجمتين من نجوم الحداثة في فرنسا سونيا دولوني وفييرا دا سيلفا (أزياء وقماش وسجاد)، وليس من سبيل المبالغة القول بأنها سابقة لعصرها، ليس في مجال الرسم والنحت فحسب، بل في "فن التصميم" الذي امتلكته بقوة، حيث يكشف المعرض عن ريادتها في تصاميمها التي تناولت مختلف جوانب الحياة، من أزياء وملابس وسجاديات ومقاعد للساحات العامة ومجوهرات وتصميم أغلفة كتب وتصميم غرافيكي وملصقات وقطع أثاث ومقابض حقائب وسكاكين وقناديل ومقابض للأبواب، يضاف إلى ذلك تصاميم أدوات التخزين والحفظ في محترفها.
كل ذلك يعكس إصرار الفنانة على مبدأ جعل الفن في متناول الجميع، بما يساهم في تجميل أمكنة العيش، دون أن يكون حكراً على النخبة، كي يدخل في مجريات الحياة اليومية، ما يعطي للفن وظائف جمالية جديدة، يمكنها أن تتجلى في المنتج الفني بطابعه الاستهلاكي.
ولعلها في ذلك استطاعت التوفيق لأول مرة في تاريخ الفن الحديث في العالم العربي، بين معايير مدرسة الباوهاوس ومبادئ الوظائف الجمالية للفنون الإسلامية، حيث الفن مجاله الحِرفة ويتكامل في التطبيق، ليكون قابلاً للتداول والانتشار.
صورة تجمع الفنانة سلوى روضة شقير على شمال الصورة في الصف الثاني، مع زملائها من الطلبة في محترف الفنان فرناند ليجيه في باريس عام 1949
كرسيّ سلوى
لئن كان "كرسيّ فازيلي كاندنسكيmodèle B3 " أشهر قطعة صمّمها المهندس ومصمم الأثاث المجري مارسيل بروير (ما بين 1925- 1926) زميل كاندنسكي في الباوهاوس ليصير معروفاً باسم "كرسيّ الرسام"، هو رمز ثوري للبساطة في عالم التصميم في الربع الأول من القرن العشرين، فإن تحفة الفنانة شقير في هذا الميدان هي أيضاً كرسيّ من الحديد (style moderne) تم تعليقه على الحائط التذكاريّ الذي يروي سيرة حياة فنانة مُجدِّدة لطالما أحست بالإجحاف والظلم في حياتها ولم تجد كفايتها سوى في الفن الذي انغمست فيه، بحيث إن كل ما توفر لديها، مهما كان بسيطاً ومتواضعاً، كان يخرج تحفة من بين يديها.
ما أجمل أطباق سلوى روضة شقير الفخارية الملوّنة المطلية، والأجمل منها مجوهراتها (عقود وخواتم وحلق ومتدليات وبروشات) المرصعة بالأحجار الكريمة بأشكالها المبتكرة التي تبدو كمنحوتات تجريدية مصغرة ومحمولة تعطي انطباعاً خاصاً بالجمال والتّفرد عند ارتدائها.
من الأعمال الطريفة هي اللوحة التي رسمتها شقير تحت عنوان "ألعاب الأطفال"، وهي من مجموعة ماريت شارلتون (نيويورك)، عُرضت في متحف فيرجينيا عام 1952، ويظهر فيها رسمٌ للراديو القديم الذي كان يبقى مركوناً على رف الاستوديو الخاص للفنانة، فضلاً عن عشرات التصاميم التي نفّذتها سلوى بمختلف الخامات لقناديل الليل، منها ما هو مزين بأشكال نجمية مثل لوحات أرابسكية عاكسة للضوء.
كل قطعة سواء كانت منحوتة أو سجادية أو عملاً تطبيقياً يحمل في ذاته كيانه وعلاقته بالمحيط الإنساني والحضاري. إلى ذلك، ربطت سلوى روضة شقير بين النحت والمعمار تحت تأثير المدرسة البنائية Constrictivisme.
هذه المدرسة التي ألهمتها دينامية العلاقة بالفضاء وبالخامات الجديدة التي سرعان ما دخلت عالم منحوتاتها كالأسلاك والصفائح المعدنية والبلاستيك والزجاج وخيوط النايلون، يتراءى هذا الربط بأجمل حلته في منحوتة خشبية عبارة عن عمارة بيضاء كبيرة مكونة من ألف قطعة صغيرة، كما ربطت شقير بين التشكيل البنائي لقطع منحوتاتها (القائمة على التستيف بحسب الناتئ والمقعّر والمجوّف) بما يتيح إعادة التشكيل دوماً بطرائق مختلفة، في نزوع لربط هذا النوع من التركيب لشطور المنحوتة، ببيوت الشعر في القصيدة العربية.
قطعة أثاث من بيت الفنانة ومن تصميمها
الفكر كفكر ونظام
من بين الأزياء المعروضة المعطف الذي صنعته سلوى لنفسها من الفراء وقماش الخيش المقلّم الذي زينته بأزرارٍ من ابتكارها ليكون قطعة لباس تعبّر عن إطلالتها، وقد ظهرت به في أكثر من مناسبة في معارضها وفي الصور التذكارية مع منحوتاتها. ومن لا يعرف سلوى لا يدرك ذلك الجانب الخفيّ من شخصيتها حين انتسبت شابة للدراسة في الجامعة اللبنانية الأميركية حين كان اسمها American Junior college for women، (قسم العلوم الطبيعية) وما أظهرته من براعة في استعمال عقلها ويديها في ميدان الخياطة والنسيج والأعمال التطبيقية مع شغف خاص للعلوم.
عن هذا الشغف تحدثت نشابة في كتابها عن الصداقة التي ربطت بين شقير الرسامة وسلوى نصّار السيدة المثقفة المتوغلة في العلوم، عبر أنيسة نجار (شقيقة سلوى) وهي ناشطة نسائية مدافعة عن حقوق المرأة، سرعان ما أسفرت هذه الصداقة بين شقير ونصّار (التي أصبحت في ما بعد رئيسة الجامعة اللبنانية الأميركية) عن تبادل للأفكار والمعلومات والكتب ومناقشات حول علم الكونيات والرياضيات والبنيوية، "وقد أثرت هذه الديناميات بعمق على مساعي شقير الفنية، ونهجها في إزالة الحدود من خلال دمج العلوم والفن والعمارة والتصميم، وهو نهج يستمر في إلهام الأجيال الحالية والمستقبلية من الفنانين والمصممين - كما تقول نشابة - نظراً لتجذر شقير في تراثها العربي بدلاً من التقاليد والأعراف الغربية".
تعتبر سلوى روضة شقير من الرعيل التجريدي الأول بين فناني الحداثة العرب. لم تنخرط عميقاً في الواقعية ولا في تصوير الطبيعة إلا لماماً رغم أنها مرت بمحترفين لاثنين من كبار الانطباعية اللبنانية هما عمر الأنسي ومصطفى فروخ، غير أن حدثاً غيّر مجرى حياتها حين قضت سبعة أشهر في القاهرة عام 1943، وكانت المتاحف مغلقة بسبب الحرب العالمية الثانية، فزارت الجوامع والمدارس والأبنية القديمة وتأثرت بما رأته من آثار الفنون الإسلامية. لذا تكونت لديها قناعة بأن هذا النوع من الفن ينطوي على فكر ونظام وروحانية نابعة من فلسفة جمالية خاصة.
أما الحدث الثاني والأهم في حياة الفنانة فجاء حين قصدت باريس في عام 1948 لدراسة الفن، وهناك وجدت أن الدعوة إلى منطلقات الحداثة التي تعمّ الغرب ما هي إلا التجريد عينه الكامن في الفنون الزخرفية الإسلامية، في الفترة نفسها التي كان يحرز فيها التشييد والتجريد الهندسي تقدماً كبيراً في معارض باريس مطلع الخمسينات، في مواجهة التجريد الغنائي والبقعية واستيحاء الطبيعة.
أزياء من تصميم الفنانة سلوى روضة شقير
انتسبت سلوى في بادئ الأمر إلى المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة، ثم التحقت بمحترف الفنان فرناند ليجيه لمدة ثلاثة أشهر فقط، إذ إنه لم يستلفتها هذا الأسلوب من التشخيص للواقع، فقد كان خيارها بعيداً من ذائقة فنون المتاحف التي تدهش غالباً القادمين الجدد إلى العاصمة الفرنسية. آثرت التخصص في مجال النحت (ما بين عامي 1948 و1952) فترددت على أكاديمية "الغراند شوميير" وأقامت معرضها التجريدي الأول في باريس في "غاليري كوليت اللندي" (عام 1951). تعرفت على أبرز فناني التجريد الهندسي في المدرسة الباريسية، أثناء عملها في محترف جان ديوان (مورنستون، جاكبسون، بيليه، فازاريللي، بولياكوف)، ثم ما لبثت أن أحرزت نجاحاً سريعاً في معارضها هناك، لا سيما مشاركتها في صالون الحقائق الجديدة.
كانت الفنانة مأخوذة بكيفية استعمال الفنان العربي للدائرة والخط المستقيم لوصف شيء لا يمكن وصفه ولا حتى بالظّن، وهذا ما جعلها تركّز منذ أوائل الخمسينات على مبدأ الوحدة، وهو قدرة الخط على اتباع مسار يسمح له بتحويل نفسه إلى أشكال لا متناهية العدد. ومن ثم عمدت إلى تقسيم هذه الوحدة إلى أجزاء قابلة للتوافق والتعارض والتكرار.
استمدت من الخط العربي وفلسفة الفنون الإسلامية معايير العلاقة بالأشكال الهندسية وفق جدلية أدت إلى نقلة نوعية في التجريد وعلاقته بالفضاء من مقتربات روحانية أعطت أعمال سلوى روضة شقير صفاتها الاستثثنائية المجدِّدة.