عندما يُشار إلى فن النحت المصري، فإن هناك تقاطعاً بلا شك بين إحداثيات الجغرافيا، ومدارات التاريخ. ففي تلك الخريطة المكانية على ضفاف النيل، هناك خصوصية عبر الأزمنة لهذا اللون الإبداعي البصري، الترميزي والتجريدي، بجمالياته التشكيلية المعبّرة المرهفة، ومجسّماته وتكويناته الشامخة، الثلاثية الأبعاد، التي تستعمر الفراغ.
وقد اقترنت سرديات النحت المصري القديم، بصلابة الخامة وقوة النقوش وفخامة البنيان وضخامته في كثير من الأحوال.
ورغم صعوبة هذا الفن وقسوته وارتفاع تكلفته وتعدّد مراحله وعملياته، فإنه كان الأكثر انتشاراً، والأقرب إلى أصابع الفنان، من فن التصوير في الحضارات القديمة عموماً، وفي الحضارة الفرعونية على وجه الخصوص.
ولعلّ الدلالات الدينية الكثيفة، وتنوّع صياغات المعابد والمقابر، وزخم محتوياتها، هي وراء تأصيل فن النحت في مصر القديمة، وتوطيده على هذا النحو، عبر خامات مختلفة من الحجارة والسيراميك والخزف والعاج والخشب والفخار، وغيرها. ويأتي ذلك، إلى جانب فنون الرسم والعمارة والتصوير الأخرى التي أفرزتها الحضارة الفرعونية منذ ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد.
أحفاد محمود مختار
ولا تغيب استلهامات فن النحت الفرعوني عن ذاكرة حركات الإحياء والنهضة والتطوير في الحضارة المصرية الحديثة. ويشكّل تمثال "نهضة مصر" للنحّات الرائد محمود مختار أبرز تلك التجلّيات العصرية.
اختتم مختار هذا العمل الضخم المصنوع من حجر الغرانيت عام 1920، ويرمز به الفنان الطليعي إلى مصر الحديثة التي تطالب بالحرّية والاستقلال، مصوّراً فتاة تقف إلى جوار أبي الهول، واضعةً يدها فوق رأسه، وهي تتنسم هواء المستقبل بتفاؤل وثقة.
وإلى تلك المدرسة المصرية الأصيلة والفريدة في فن النحت، عبر عصورها، تنتمي الأجيال المتتالية من النحّاتين والنحّاتات في مصر.
ولا يُخفى معنى الخلود، وسرّه، وجوهره، بشكل أو بآخر، عن أعضاء هذه المدرسة المصرية، التي تتعاطى مع النحت كواجهة للحضور والتحقق والثقل والرصانة، وربما القداسة.
ومن جهته، يعكس معرض النحت الجماعي "حكايات متشابكة"، المنعقد في غاليري بيكاسو في القاهرة (مايو/ أيار 2024)، ملامح جديدة ومغايرة ومثيرة، تخص واقع النحت المصري الراهن، وتحيل إلى الصلة الوثيقة بين فن النحت ومفهوم الحرّية. كما يفتح المعرض باب النقاش واسعاً حول أمور وقضايا أخرى متعلقة، فنية وإجرائية.
سرديات بصرية معاصرة
وفي صدارة الملاحظات الأولية، التي يفيد بها سريعاً المعرض الجماعي اللافت "حكايات متشابكة"، أنه يكاد يكون "معرضاً نسويّاً" بامتياز، يتسع لتقديم مغامرات المرأة المصرية في فن النحت.
وتصحّ تلك التسمية، إذ إن تسع فنّانات شابّات يستحوذن على مساحة المعرض بأعمال متنوعة تمثّل الأغلبية العظمى، وذلك في مقابل اثنين فقط من الذكور بمشاركتهما الرمزية المحدودة جداً.
والفنانات المشاركات في المعرض النحتي هنّ كل من: سارة قاسم، ميسون الزُّربة، إيمان بركات، وئام علي، نجوى إبراهيم، مروة مجدي، تسنيم عياد، سمر مجدي، نوران الغباشي.
تستعرض النحّاتات المشاركات، بأعمالهن الصغيرة الحجم نسبيّاً والصغيرة جداً، سردياتهن البصرية المعاصرة، بآليات مبسّطة، وقدرات تعبيرية بالغة الحساسية والتوتر والرقّة والشفافية.
ومن خلال منحوتاتهن الناعمة وقطعهن الدقيقة، تنقل الفنانات وجهات نظرهن حول الذات والآخر والأحداث المحيطة من حولهن. وتسعى الفنانات إلى تفجير تأويلات وإشارات لا حصر لها للكتل الصمّاء المشغولة، التي تجري معالجتها ليس بوصفها أجساداً آدمية في معظم الأحوال، مكتملة أو منقوصة، ولكنْ باعتبارها كيانات مستقلة، منفصلة ومتصلة، متجاورة وملتحمة مع بعضها بعضاً.
كما أن الفنانات الشابات ينسجن ببراعة، ومن زوايا التقاط خاصة، رواياتهن وقصصهن الواقعية والخيالية والأسطورية والسحرية، في موتيفات ومنمنمات من التكوينات والأشكال والأنسجة والأجزاء الدالة والموحية.
وتتفاعل الفنانات مع خامات متعددة، منها البرونز والرخام والحجر والسيراميك والغرانيت والحديد والخشب ووسائط أخرى كثيرة. وتتوازى صعوبة الخامات المستخدمة، مع صعوبات وإشكالات أخرى كثيرة تتعلق بفكرة أن تكون المرأة نحّاتة أصلاً، وأن تمارس النحت بطلاقة وحرّية كأي فن آخر، شأنها شأن الرجل.
منحوتة سارة قاسم
مواجهة التحدّيات
المرأة النحّاتة هي ليست فقط امرأة مُغامِرة، ولكنها أيضاً إنسانة مقاتلة، لأنها تعمل في ظروف بالغة الصعوبة. تلك هي الحقيقة التي تؤكّدها أعمال النحّاتات المصريات المشاركات في معرض "حكايات متشابكة" الجماعي.
وليست فقط الخامة الصعبة القاسية، التي تتطلّب مجهوداً عضليّاً في نقلها وتقطيعها وتطويعها والتعامل المرن معها، هي المعضلة الوحيدة التي تواجه المرأة النحّاتة. فمن جهة ثانية، فالنحت فن يستوجب تكلفة مادية مرتفعة، وإيجاد مكان مستقل للعمل، وآلات ومعدّات كثيرة وثقيلة، فضلاً عن أنه يتطلّب تفرّغاً كاملاً ومثابرة لفترات طويلة، إلى آخر هذه الأمور التي قد لا تتوفر للمرأة بسهولة في حياتها الحالية المعقّدة.
ومن جهة ثالثة، فالنحت هو الفن المرادف للجرأة والحرية والانفلات، لاسيما في تشريح الجسد وإعادة صياغته جماليّاً ودلاليّاً. وإذا كان النحت المعاصر يتقصّى سرديات حكائية، فإن مصداقية تلك الحكايات مرهونة بالضرورة بانغماسها في مركزية الجسد، لأن تلك المركزية محور الفن النحتي برمّته.
وفي حكاياتهن المتشابكة، تشتبك الفنانات الشابات مع الخامات الصلدة العنيدة في حدود الإمكانات المتاحة لامرأة نحّاتة تعمل بمفردها، من دون مساعدين، في منزلها أو في ورشتها الضيّقة.
لميسون الزربة
ومن ثم، فالتكوينات تتراوح بين الصغيرة، والصغيرة جداً. كما أن التعامل الآلي والتقني مع الخامة، يأتي في أضيّق الحدود وأيسرها.
وبالضرورة، تحلّ الرهافة والعذوبة والليونة وموهبة الأنامل والقدرة على التأثير والإدهاش، في فلسفة الأنوثة النحتية أو النحت الأنثوي، محل الضخامة والفخامة والشموخ واستعراض العضلات، في المدرسة المصرية بعناصرها ومفرداتها التقليدية.
أما سؤال الحرّية المستعصي، فإجابته في معرض "حكايات متشابكة"، ليست في أطروحة الجسد الآدمي الفج، بذاتها. وإنما تتحقق الإجابة من خلال توليد بدائل من الكتل النحتية الموازية، المختلقة على غير منوال، والتي لا تخلو من احتضان ظلال الطفلة والفراشة والسمكة والقوقعة والهدهد والحصان وعروس البحر وغيرها من الموجودات الحقيقية والفانتازية.
وهذه الكتل المبتكرة، التي تجسّد حالات انسيابية وطفولية وموسيقية للكائنات جميعاً، بإمكانها أن تعرّي كل ما هو إنساني، أنثوي وذكوري على السواء. كما أنها بمقدورها أن تطلق أيضاً مشاعر الإنسان الداخلية، وفيوضاته المخبوءة في أعماقه.
وهكذا، تصير القطعة المنحوتة جسداً وروحاً في آن، يسبحان بتلقائية في الفراغ الشفيف.