بالحب والشغف ونبض القلب جمع الثنائي فيروز وجان- بول فيلان، في دارتهما في أبو ظبي ما يمكن أن نسمّيه مقتنيات متحف مصغّر للفن المعاصر في الشرق الأوسط. لوحات ومنحوتات ورسوم لفنانين محدثين ومعاصرين من أنحاء العالم العربي، تتلاقى وتتعارف وتتآخى في صدر المكان وجنباته وزواياه، حتى أصبحت جزءاً منه، بل من مزاياه وفرادته في اجتذاب الذوّاقة والمتخصصين. ذلك ما يجعل الفن يكتسب قيمته المطلقة من تفاعل محبيّه.
ومهما قيل وما كُتِب عنه من نصوص بأقلام المؤرخّين والنقاد ومدراء الفنون، غير أنها لا توازي حفاوة مقتني هذا الفن ورعايتهم له تحت مسمّى الحب. هذه المقتنيات تشكّل محتويات كتاب ضخم (بثلاث لغات) بأقلام نخبة من النقاد العرب والأجانب، يصدر قريباً في ابو ظبي، ملقياً الضوء على حقبة مفصلية من الفن العربي الذي يستقطب حالياً انظار العالم.
لو نظرنا جيداً إلى الطريق المؤدي نحو تاريخ الفن، فسنرى أمثلة باهرة لرعاة الفن وكهنته وعرّابيه ومشجعيه، بسببهم أثمرت مواهب كثيرة عن أعمال إبداعية مؤثرة وخالدة ومثيرة للجدل احياناً. وليس مبالغة القول، إن صعود الفن العربي الحديث والمعاصر وتداولياته حالياً في البينالات والمنصّات والمزادات العالمية، تقوم على عاتق المستثمرين وأصحاب الرعاية والمقتنين وجامعي الأعمال الفنية.
جان بول فيلان (فرنسي) وزوجته السيدة فيروز (عربية من سوريا)، هما النموذج الرصين والألمع في هذا المجال، نظراً لضخامة مقتنياتهما من الأعمال الفنية، وتنوعها وثرائها وشموليتها التاريخية، التي تمتد على مدى أكثر من جيلٍ، على وجه الخصوص المؤسسين من جيل الحداثة العربية واستكمالاً بالمعاصرين.
سيدة بالفستان الأحمر للفنان السوري لؤي كيالي- مجموعة فيروز وجان بول فيلان
تكوين المجموعة
بدأ الزوجان منذ ثلاثين عاماً بجمع الأعمال الفنية، بادىء الأمر في فرنسا، وتمت الاستعانة وقتئذٍ بفنانين أوروبيين، الى أن انتقلت فيروز إلى الإمارات العربية المتحدة للانضمام إلى زوجها الذي شغل منذ العام 1982 منصب مدير الاستراتيجية والتخطيط في جهاز ابو ظبي للإستثمار، فأخذا يركّزان منذ ذلك الحين على فناني الشرق الأوسط. عاش الزوجان فيروز وجان- بول وعملا في دولة الإمارات العربية المتحدة، وعُرفا كناشِطين بارزَين في مجال الفنون والثقافة. كانت فيروز واحدة من الأعضاء الثلاثة المؤسسين للجنة أبوظبي للحفلات الموسيقية، وبعد افتتاح جامعة السوربون أبوظبي عام 2006، أنشأت جمعية أصدقاء جامعة السوربون أبوظبي؛ واستمرت في العمل كرئيسة لها. كما دعمت بشكل فعّال فن أبوظبي كراعية له منذ إنشاء "معرض أبو ظبي الأول للفنون". وفي الآونة الأخيرة، أصبحت الراعي المؤسس لدائرة رعاة اللوفر أبوظبي. وهي راعية أيضاً لجمعية "أصدقاء مركز جورج بومبيدو" في باريس، وتشارك في أعمال قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الدائرة الدولية، و"جمعية الأبواب المفتوحة على الفن" التي ساهمت في إنشائها لدعم الفنانين المنفيين في فرنسا؛ وهي مهتمة بشكل خاص بتشجيع الفنانين القادمين من سوريا، بلدها الأم.
في عام 2012، حصلت على اللقب المرموق "فارس الفنون والآداب" من قبل السيد فريدريك ميتران، وزير الثقافة في عهد الرئيس ساركوزي، لمساهماتها الكبيرة في الفنون.
ما أنجزته السيدة فيروز حتى الآن لم يزدها سوى تواضع وبساطة، وهي المتربّعة على عرش حضورها، كنجمةٍ مضيئة في عالم الفن، ليس للتباهي بانحيازها للجمال ولكل ذي قيمة فنية، بل لسبب الاشعاع الثقافي الذي تملكه بطبيعتها وتهبه للآخرين. هذا الإشعاع الذي يصنع حالياً نهضة الفن العربي وديناميته ويساهم في اعطائه قيمته المادية والمعنوية، كما يمكّن الفنان من القدرة على الاستمرار والعطاء. وهل من دور آخر للفن؟
البولفار الزهري- لوحة للفنان الإماراتي محمد احمد ابراهيم-مجموعة فيروز وجان بول فيلان
الفن هو تاريخ ايضاً
إذا شاهدنا مجموعة الثنائي فيلان، نبصر في مراياها تاريخاً حافلاً وليس اعمالاً فنية فحسب، بدءاً من التأثيرات المباشرة وغير المباشرة لثورة الحداثة في الغرب على مسار الفنانين العرب الذين درسوا في معاهد أوروبا فاعتنقوا التجريد والتكعيبية والوحشية والتعبيرية والسوريالية... في توقهم الى المعرفة وحرّية التعبير. في غمرة تلاقح ثقافي سريع، تشكّلت الحركة التشكيلية العربية، بحداثة تحاذي الغرب.
وبدأ منذ عقد الخمسينات من القرن العشرين البحث عن الهوية والأصالة والتراث في وجه التغريب، يواكبه مسلسل الثورات وصراعات المتاريس الثقافية والأساليب الفنية (الصراع بين الواقعية والتجريد).
في ظل هذا الصراع عملت الحركة التشكيلية العربية على خلق مساحات إبداعية وطرائق في العمل، واتجاهات بحثية في الفن، وتمّ الاشتغال على خلق توليفة لربط الحداثة بالتراث، تجلّت بالصعود الساحق لتيّار الحروفية.
تتراءى في مجموعة فيلان الروح العميقة لدى العديد من الرواد ومن الجيل الذي تلاه في مصر (سيف وانلي وانجي افلاطون وجاذبية سري وحسين سليمان)، وتأخذنا تجارب فناني الحداثة في سوريا إلى خصوصيتها المدهشة في أعمال نذير نبعة وفاتح المدرّس ولؤي كيالي ونصير شورى، وتنقلنا "وجوه" مروان قصاب باشي استاذ التشخيصية الجديدة (التي ظهرت في ألمانيا في الستينات)، إلى العنف الدرامي في خطابها الوجودي العميق وصولاً إلى الأحلام الرمادية المرتسمة على وجوه نساء صفوان دحّول.
وتنبري التجربة العراقية بخطابها المنبثق من فلسفة البعد الواحد وصعوداً إلى حقبة المعاصرة مع أعمال ضياء العزاوي، في تقاطعات سطوحها وإشراقاتها وارتباطها الفكري مع موتيفات من التراث الرافدي، ونقف بدهشة امام أسلوب سعدي الكعبي الباحث عن هوية الانسان من خلال تجلّيات مادة الخزف تذكيراً بأساطير الرافدين.
تحت ظلال النخيل للفنانة المصرية هدى تواكل
جلسات النسوة
من الجزائر تطالعنا روعة جلسات النسوة في حدائق بايا، وطلاسم حروفيات رشيد القريشي والمنظر التجريدي بأسلوب عبد الله بوناتور، انتقالاً إلى الامواج العامودية الزرقاء لشواطىء أصيلة في لوحة محمد المليحي احد رموز الحداثة في المغرب العربي.
ومن غنائية أجواء تونس الخضراء (علي بن سالم وهادي التريكي) إلى تجارب فناني لبنان، في مقتنيات الثنائي فيلان التي تُقدّم بسخاء مشهدية متنوعة وكبيرة من الأعمال لفناني جيل الحداثة (شفيق عبود وعارف الريّس وبول غيراغوسيان وحسين ماضي وهلن الخال..)، التي تشهد على الحقبة الذهبية لبيروت ودورها الاستقطابي كدّرة لفنون الشرق والغرب، قبيل اندلاع الحرب التي ادّت إلى منعطفات كبيرة في الفنون التي انبثقت من تداعياتها المأساوية.
ويأتينا من جراح فلسطين وذاكرة بيوتها وقُدسها وأشجار زيتونها وحقولها وصمود ابنائها، عمل الفنانة الفلسطينية ساميه الحلبي، محمّلاً بعناقيد الألوان كهوّية عن خصائص المكان. يأتي ذلك على مفصل ما بين تحولّات المنطقة العربية وما يجري حالياً في فلسطين (تدمير غزة) وانقسامات الرأي العالمي حولها.
العائلة لوحة زيتية للفنان اللبناني بول غيراغوسيان
ما بعد الحداثة والفن المعولم
توسعت مجموعة فيلان في السنوات الأخيرة أكثر باقتناء فنانين معاصرين رئيسيين في الشرق الأوسط من الإمارات العربية المتحدة وأيضاً من تركيا وباكستان. في إضاءة على حقبة مفصلية مهمّة من مرحلة ما بعد- الحداثة التي تمثلت بما سمّي بالخمسة أي "المجموعة المفاهيمية"، التي اخترقت الحدود السائدة لعلاقة الفن بالواقع في علاقة تصادمية ناشئة من إلهامات استخدام الأشياء المهملة، وارتبطت بالدور الطليعي للفنان الراحل حسن شريف، الذي دخل بعض لوحاته مقتنيات فيلان، فضلاً عن أعمال كلٍ من محمد كاظم، حسين شريف، ومحمد أحمد إبراهيم. وفي قائمة الحضور الإماراتي ايضاً لوحات حروفية مميزة لعبد القادر الريّس تُعتبر امتداداً للتشكيل الحداثي بحلّة معاصرة مرتبط بالبيئة والهوية.
يطلّ الجيل المعاصر في بضعة أعمال لأيمن بعلبكي، تعكس مشهدية الواقع الممزق لسكان الأحياء البائسة في أحياء بيروت بعيد الحرب الأهلية، ونبيل نحاس الذي يجمع في فنه بين تقاليد الرسم بألوان زاهية واستخدام أشكال قواقع مجلوبة من أعماق البحار، توحي بثراء الطبيعة وقوة الخيال، وتغريد درغوث التي تتعامل في لوحاتها مع مواضيع العنف والثقافة الشعبيّة المثُقلة بتداعيات الحرب، التي تتراءى ايضاً لدى سروان بران (عراقي- كردي) المتميز بتعبيريته البراقة والصادمة من خلال ثيمات تجسد العازفين والمهرجين والسجناء والقادة، بما تحمله من تأويلات دلالية قاسية في جمالها.
لافتٌ ايضاً في مجموعة فيلان الحضور النسوي لفنانات رائدات ومعاصرات أثبتن قدراتهن على المستوى الثقافي والابداعي: تأتي في الطليعة الفنانة الإماراتية نجاة مكي، وهي من الرعيل الأول في الفن التشكيلي الإماراتي، استطاعت ان تعكس في فنها الروابط الجمالية لعلاقة الإنسان بالتراث والبيئة الحضارية والوجدان الشعبي الإماراتي، فضلاً عن أعمال لكل من الفنانة هدى تواكل وشيخة المزروع، أما الفنانة سارة المهيري، فتكشف اعمالها عن خطاب حول اللغة والشكل والذاكرة، تستخلص لغة إنشائية في قراءة الزمن على أنه أحجية.
انعكست الذوقية الفنية للسيدة فيروز بانحيازها إلى فن النحت، لذا تضمنت مجموعتها اعمالاً من كبار النحاتين العرب من أجيال مختلفة، في طليعتهم العراقيان محمد غني حكمت وضياء العزاوي، ومن أرض النيل آدم حنين والنحات المعاصر خالد زكي، مع إطلالة مميزة لمنى السعودي، وحضور بارز لرائد النحت التجريدي في لبنان ميشال بصبوص وشقيقه ألفرد وابنه أناشار بصبوص، ومن المعاصرين تمّ اقتناء أكثر من قطعة للنحات اللبناني شوقي شوكيني (المقيم في باريس) الذي تسلّط أعماله على تركيبات منبثقة من جماليات الفن الأقليّ "المينمال آرت" الياباني. في حين أن منحوتات الفنانة سلوى زيدان تجمع بين رشاقة التوليف الحركي والتجريد المنطلِق من الشكل الحروفي. ومن البحرين يطل عملٌ عبارة عن منحوتة رخامية لجمال عبد الرحيم، مستشرفاً فيها منطق الطير وموسيقى الإزميل وشغف التجريب.
ما زال عشق الفن لدى جان- بول وفيروز لم يبرح مكانه، وما زال البذل والاستثمار بالفن على نموه واتساعه، مما يشجع الجيل الشاب على التميُّز كي يستحق هيبة الدخول إلى مجموعة فيلان وحظوته.