تتأسس الرحلة الجمالية والتاريخية التي يقدّمها معرض "من كليلة ودمنة إلى لافونتين .. جولة بين الحكايات والحِكم"، المقام حالياً في "متحف اللوفر أبوظبي" ولغاية 21 تموز/يوليو المقبل، على نسق خطّي، تكون البداية فيه مع عبدالله بن المقفع وأقدم نسخة مصوّرة من "كليلة ودمنة" (الدولة الأيوبية)، وكل ما يستدعيه هذا العمل لتقديم "التقليد الشرقي" في الحكاية الرمزية، والانتقال إلى "التقليد الغربي" أو "الإيسوبي" في هذا الجنس القصصي، وصولاً إلى الشاعر الفرنسي جون دي لافونتين (1621 – 1695)، فهي رحلة عمادها المخطوطات والرسومات، والأعمال الفنية المتصلة بالحكايات الرمزية على لسان الحيوانات، بوصفه جنساً أدبياً تتحلق حوله لغات وفنون وأقوام وحضارات، أو كما يقول غلبرت تشيسترتون "الحكاية الرمزية أكثر تاريخية من الحقيقة، لأن الحقيقة تخبرنا عن إنسان واحد، أما الحكاية الرمزية فتخبرنا عن مليون إنسان".
تتخذ المخطوطات والرسومات المتصلة بـ" كليلة ودمنة " منطلقها من الأصل الهندي " بانكاتانترا " (الفصول الخمسة) التي ألّفها بيدبا بالسنسكريتية (القرن الثالث) ونسخة برزويه بالفارسية الوسطى (نحو 550) وصولاً إلى العربية وترجمة عبد الله ابن المقفع (نحو 750) والتي منها تُرجمت إلى السريانية واللاتينية واليونانية والعبرية والإسبانية القديمة، وبالتالي تلتقي هذه المخطوطات على تقديم "التقليد الشرقي" في الحكاية الرمزية، ولننتقل بعدئذ إلى "التقليد الغربي" المتمثل بحكايات إيسوب الشهيرة وهي تعود بنا إلى القرن السابع قبل الميلاد وترجماتها إلى لغات أوروبية متعددة، مع فتح الباب على مصراعيه أمام المخطوطات المتصلة بـ"التراث الإيسوبي" الأوروبي في الحكاية الرمزية ورسوماتها التوضيحية، بما يشمل أيضاً حكايات فايدروس الرمزية وأولوس جيليوس وبليني وبوليتيان، وكراسة خطّ فيها الملك لويس الخامس عشر عدداً من الحكايات الرمزية.
حكايات رمزية
وفقاً لهذا النسق يحتل لافونتين القسم الثالث من المعرض، بوصفه "في مفترق الطرق بين التقليدين الغربي والشرقي"، أو الجامع بينهما، هو الذي ألّف بين عامي 1668 و1694 اثني عشر مجلداً من الحكايات الرمزية، ويُعتبر "أعظم كتّاب الحكايات الرمزية" ولعل ما نشاهده في المعرض يتحلق حول لافونتين بحثياً، أو بالتناغم مع مرجعيات حكاياته وجذورها الإيسوبية، وصولاً إلى جذورها الشرقية أيضاً، واطلاعه جزئياً على ترجمة المستشرق غيلبرت غولمان للنسخة الفارسية من "كليلة ودمنة" أو كتاب "نموذج لحكمة الهنود القدامى" ترجمة الأب لوسين، وحضور الشرق في 25 قصة لافونتيّة "ذات طابع غرائبي نابعة فعلاً من (كليلة ودمنة)" كما تشير قيّمة المعرض أني فرناي نوري في كتاب المعرض، ونحو ذلك من بحث مطول في "الأصول الشرقية" لحكايات لافونتين، الفارسية والهندية تحديداً، ما استدعى أيضاً النسق العربي في هذا السياق، على نحو استدراكي ربما!
وصولاً إلى "العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ" ترجمة محمد عثمان جلال لحكايات لافونتين إلى العربية عام 1857، بما يجسد تطلع المعرض إلى "إبراز عبقرية مشتركة بين البشر" وتقاطعات التقاليد الأدبية، ورهانه في ذلك على "الحكاية الرمزية"، مستمداً ثراءه من مخزون المخطوطات والأعمال الفنية النفيسة في المكتبة الوطنية الفرنسية والمتاحف الفرنسية، بما ذلك اللوفر ومتحف جون دي لافونتين ومعهد العالم العربي في باريس.
يقدم المعرض 98 رسماً، أغلبها مرافقة للمخطوطات والكتب، وعليه تمّ وضع كل مخطوط مفتوحاً على أهم رسم من رسوماته، كما هي نسخة "كليلة ودمنة" المفتوحة على رسم من أصباغ وذهب لكسرى والطبيب برزويه (نحو 1220).
والرسم البديع لكليلة ودمنة، الأول بالأحمر والثاني بالأزرق متواجهان وبينهما تكوين زخرفي على شكل شجرة، وزخارف نسخة حسين واعظ الكاشفي الفارسية (1830) ورسم "المرأة العجوز والقط"، ورسم "الببغاوان وزوجة المرزبان" في النسخة العثمانية من "كليلة ودمنة" في نهاية القرن السادس عشر، وصولاً إلى آنية رسم عليه كليلة ودمنة في دمشق العصر المملوكي، ومنحوتات حكاية "السلحفاة الثرثارة" في "الفصول الخمسة" مأخوذة من معبد ميندوت في جاوة بإندونيسيا (القرن التاسع).
ثمة أيضاً لوحات ومنمنمات تجسّد حكايات "كليلة ودمنة"، منها ما ينتمي إلى الفن الإسلامي حيث البعد الواحد وأخرى أنجزها فنانون عرب وغير عرب مثل ربيكا راو وميليس بورك، وصولاً إلى عمل تركيبي لنبيل بطرس مستمد منها بعنوان "أحداث متكررة".
مع النسق المتصل بـ"التقليد الغربي" ولافونتين لا وجود لمخطوطات منسوخة باليد، بل المهيمن هو الطباعة، وهذا منطقي جداً ما دامت معظم الطبعات صادرة ما بين القرن الخامس عشر والسادس عشر، لا بل إننا نقع على صورة لإيسوب من نسخة من قصصه باللاتينية تعود إلى عام 1476.
جماليات الرسوم
ولعل ما نشاهده من مخطوطات ورسومات تضيء على الطباعة الحجرية بشكل وآخر، وجماليات الرسوم لا تحمل سحر المخطوطات الشرقية والتذهيب والمنمنمات، بل هي أقرب للكتب القديمة إن صح التوصيف، لكنها مصورة برسوم شديدة الإتقان، مثلما هي نسخ "دنيس تيبري وكلود بارين" من حكايات لافونتين الرمزية مع رسوم فرانسوا شوفو في عامي 1678 و1679، والنقش بالحمض لرسومات بونافنتورا لويس بريفوست ولويس لومير في الطبعات الصادرة في عامي 1755 و1759، وغيرها من طبعات ورسومات مستمدة من 275 لوحة منقوشة على النحاس لجون باتيست أودري، ولوحات أوغست ديليير المائية التي استلهمها أيضاً من عمل أودري، وأعمال كثيرة أخرى تدفع للقول إن حكايات لافونتين شكّلت مصدراً إبداعياً لعدد كبير من الرسامين، بمن فيهم مارك شاغال الذي رسم 100 لوحة غواش بعدما طلب منه الناشر أمبرواز فولار إنجاز الرسوم التوضيحية لحكايات لافونتين، وتولى بنفسه نقلها إلى نقوش بالأبيض والأسود. إلا أن الكتاب لم يصدر جراء موت فولار المفاجئ سنة 1939، ولكن استؤنف المشروع بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في دار "تيرياد"، وقد طبع العمل في 185 نسخة، من بينها 85 نسخة ملونة بيد شاغال، ونشاهد منها في المعرض عملين منها هما: "الببغاوان، الملك وابنه" و"الحمامتان".
تقدّم قيّمة المعرض أني فرناي نوري، عبد الله ابن المقفع، في كتاب المعرض بوصفه مثقفاً فارسياً "اكتسب من والده ثقافة فارسية متينة"، ما يطرح إشكالية حاضرة على الدوام في مقاربة كهذه، تغلّب العرق أو الإثنية على الثقافي والحضاري، وتقديمه على أنه عامل خارجي أو طارئ على الثقافة العربية، رغم أنه قدّم كتباً مفصلية في النثر العربي ولم يُترجم إلا إليها، لا بل إن نوري لا تكتفي بإحالة مقتله وهو في السادسة والثلاثين من عمره إلى "دوافع شخصية وسياسية أدت إلى الحكم عليه بالإعدام"، بل أضافت عاملين هما "الشكوك التي حامت حول عقيدته الدينية من جهة، وتعاطفه الشديد من جهة أخرى مع بلاد فارس في وقت كان يُنظر فيه إلى قوة الإيرانيين على أنها خطر محدق بهيمنة الإمبراطورية العربية الناشئة"، وأي إمبراطورية ناشئة تلك وابن المقفع عاصر نهاية الإمبراطورية الأموية، وقُتل إبان حكم أبي جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس! وما مقتله على يد والي البصرة سفيان بن معاوية إلا بدوافع شخصية جراء تعريض ابن المقفع به وبأمه وتندره عليه، وصولاً إلى الخلافات السياسية، ومن ثم التغطية على جريمة قتله "قتلةً لم يُقتل بها أحد قبلاً ولن يُقتل بها أحد بَعداً "باتهامه بـ"الزندقة".