"الشاي من أجل الوئام"، عنوان جذاب اختاره الصالون الثقافي الصيني في نهر النيل.
في أحد الفنادق المطلة على النهر الخالد في القاهرة، انطلق الصالون الثقافي الاحتفالي، بحضور السفير الصيني لدى مصر لياو ليتشيانغ، ورئيس الوزراء المصري الأسبق عصام شرف، ونخبة من المثقفين والمبدعين والدبلوماسيين؛ الصينيين والمصريين والعرب.
"البرّاد" الصيني التقليدي العجيب، المصنوع من الفخّار، كان هو النكهة المميزة للحفلة، إذ ظل يطوف على الحاضرين، بين فقرات العروض الموسيقية والشعبية المتتالية، ليصبّ محتوياته الثرية المتنوعة في الكؤوس وفي القلوب على السواء.
وهذه المحتويات ليست فقط الأنواع المختلفة، المتعددة الألوان والمذاقات والفوائد، من الشاي الصيني التاريخي الفريد، بين أخضر وأحمر وأبيض وأصفر وأسود، ومعطر بالياسمين والزهور، وغير ذلك، بل يحتوي البرّاد المدهش أيضاً على جُملة من الرسائل الإبداعية والثقافية والحضارية، والمعاني والقيم الإنسانية النبيلة، الهادفة إلى تعزيز الاندماج بين البشر، ونشر التسامح من خلال مفردات القوة الناعمة.
رمز وأسلوب حياة
تحضير الشاي على الطريقة الصينية، هو فن مستقل قائم بذاته، ورمز روحي للأمة الصينية.
تعكس ثقافة إعداد الشاي وتذوقه ومنحه للآخرين أسلوب حياة كاملة، وتقاليد مجتمعية راسخة، فهو المشروب الأول في سائر المناسبات والمراسم والاحتفاليات.
الصين هي مهد الشاي وموطنه الأشهر منذ آلاف السنين، ولديها أكثر من ألفي نوع منه. ولا يمثل هذا المشروب السحري ضرورة يومية ووسيلة علاجية فحسب، ولكنه يترجم عادات الشعب ومفاهيمه في المناطق والبلدان المختلفة.
ولهذا السبب، انضمت أبجديات معالجة الشاي الصيني التقليدي، والممارسات الاجتماعية المرتبطة بها، في عام 2022، إلى قائمة التراث الثقافي غير المادي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "يونسكو"، بوصفها من الكنوز المشتركة للإنسانية كلها.
تتخذ الصين تقنيات صناعة الشاي ومعالجته، والفنون الشعبية والموسيقية والرقصات المتعلقة بها، وسيلة فعّالة للتواصل الثقافي والحضاري مع شعوب العالم، وتمرير رسائل المحبة والسلام والوئام والتآخي والالتقاء الدافئ الحميم حول "برّاد الشاي".
في هذا السياق، انتهز السفير الصيني لياو ليتشيانغ فرصة الالتقاء حول إبريق الشاي، ليعلن سعادته بانطلاق عام الشراكة الصينية المصرية، ويوضح اعتزام بلاده وجامعة الدول العربية إنشاء المركز الصيني العربي لمبادرة الحضارة العالمية، من أجل إسهام أعمق في إحلال السلام والتنمية في العالم.
فلسفة التقارب
جاءت فقرات حفل الصالون الثقافي الصيني على ضفاف النيل القاهري متناغمة مع فلسفته التوافقية، الرامية إلى استمتاع أصحاب الرؤية المشتركة بفنون تحضير الشاي وموسيقاه ورقصاته، بالإضافة إلى عروض الخطوط العربية والصينية، لكتابة عبارة "الشاي من أجل الوئام".
هذه العروض والفنون كلها جاءت مشحونة بالدلالات الروحية والرغبة القوية في الترابط بين الإنسان والطبيعة من جانب، وتحقيق الوئام والتقارب بين البشر من جانب آخر، رغم التنوع والاختلاف.
لقد وصل الشاي الصيني قديماً إلى مصر، من خلال طريق الحرير، وطريق الشاي والحصان التجاريين، وصار الشاي الأحمر على وجه التحديد هو المشروب الأبرز في الحياة اليومية المصرية، حتى يومنا هذا.
ومثلما عرف الشاي طريقه بسلاسة إلى المصريين، فإن الموسيقى والرقصات الفلكلورية والفنون الشعبية الصينية التي شهدها الحفل، قد وصلت بسهولة إلى ذائقة حضور صالون "الشاي من أجل الوئام"، الذي هدف أيضاً إلى الترويج الثقافي لمدينة شيامن الصينية العريقة، المعروفة بفرقها الفنية ذات البصمة الخاصة.
وتسمّى مدينة شيامن المركز الإبداعي للصين، وهي مدينة تعانق الطبيعة الخلابة من أمواج زرقاء وأشجار خضراء وجبال وغابات ومتنزهات لا محدودة، إلى جانب مزاراتها الأثرية والتاريخية الكثيرة.
واختيرت شيامن ضمن أكثر المدن ملاءمة للعيش في الصين، وأكثر المدن رومانسية وترفيهاً، كما أنها واحدة من أفضل مئة مدينة في العالم وفق مؤشر الطبيعة.
ألوان تعبيرية
من مسارح شيامن وغيرها من المدن الصينية، تضمن صالون الشاي الثقافي مجموعة من الأفلام التسجيلية، والعروض الشعبية الحية الحافلة بالرقصات والموسيقى التعبيرية. وهي كلها مستمدة من التراث، وتبرز علاقة الإنسان بعناصر الطبيعة المتنوعة.
تحتفي هذه العروض على نحو خاص بثقافة الشاي، بدءاً من زراعته والعناية به، مروراً بصناعته وطرق معالجته التقليدية، وصولاً إلى صبّه في الأكواب وتقديمه إلى أفراد العائلة والضيوف في المناسبات المختلفة، وفق ترتيب معيّن.
شكّلت الرقصات الانسيابية، المصحوبة بموسيقى الوتريات والنايات والآلات البدائية وإيقاعات الدفوف والإنشاد والغناء، محطات سفر عبر الزمان. وتعادل هذه المحطات الارتحالات المكانية بين وجوه الطبيعة المتعددة.
ومنحت شاشة السينما الضخمة، في خلفية المسرح، تلك الرقصات مساحة واسعة من المصداقية والواقعية، وكأنما تجري العروض في أمكنة حقيقية مفتوحة.
ومع تعدد أنواع الشاي التي يجري التعبير عنها في الرقصات، وتنوّع ألوانه ونكهاته التي يتم تقديمها لضيوف الحفل في أكواب أنيقة بين فقرة فنية وأخرى، تعددت أيضاً المناخات والأجواء في العروض الراقصة، التي حرصت على تجسيد كل فصول العام من صيف وشتاء وربيع وخريف، وفي هذه الفصول جميعاً تتم زراعة الشاي.
شخّصت الرقصات حالات الصحو والمطر والغيوم، ومثّلت جميع ساعات النهار والليل، وكأنما تلخص هذه العروض المتتالية صورة الحياة كاملة في مناطق الصين المختلفة من منظور ثقافة الشاي الاستثنائية.
وبرعت الفرق الشعبية في استخدام الأدوات والرموز والأيقونات التراثية في الحركات الأدائية، مثل المظلات والمراوح اليدوية وغيرها، التي وُظّفت بصرياً في الاستعراضات الفردية والثنائية والجماعية.
وبالتوازي مع مزج الشاي الصيني والحليب المصري في كوب واحد يضم الثقافتين، فإن العروض الصينية الراقصة ضمت في بعض فصولها مقتطفات من الأعمال الشعبية المصرية، ومنها على سبيل المثل أغنية "حلوة يا بلدي" للمطربة المصرية الفرنسية الإيطالية داليدا. ويعبر هذا الاندماج عن عالمية الفن ولغته الإنسانية المشتركة.