يكشف معرض الفنانة سلوى زيدان الذي يقام حالياً في غاليري إياد قنازع للفن المعاصر (في أبو ظبي)، عن النضج الفني لتجربة رائدة في التجريد الأقلي رسماً ونحتاً. وكأن كل تجاربها الماضية قد وجدت بعد حين أجوبتها البسيطة في التلطيخ الموجز بين طيات الحركة، والتقشف الذي يكتفي باللون الأسود كلغة هامسة وقوية بل طاغية على ما عداها من الألوان النارية الدافئة التي تظهر كجذوة نار في ليل دامس.
انطلقت شخصية الفنانة (من مواليد سهل البقاع في لبنان) منذ العام 1990، فهي تقيم وتعمل في أبو ظبي، إلا أنها عرفت انتشارها العربي الواسع مع افتتاحها لغاليري سلوى زيدان للفن المعاصر، كانت هي الأولى في أبو ظبي، واستقطبت العديد من التجارب الفنية العربية المعروفة (فنانين من أمثال حسن شريف ومحمد كاظم ونديم كوفي...)، كما سلطت الضوء على تجارب فنانين واعدين من الشرق الأوسط.
تابعت بحبّ مسارها الفني، الذي بدأ ينعطف احترافياً نحو فن النحت، لا سيما بعد توقيع مذكرة تفاهم بين معرض سلوى زيدان وجامعة زايد في 15 كانون الثاني/ يناير 2009، بهدف تنظيم إقامة ملتقى النحت العالمي في أبو ظبي والبحث والاشتراك في تطويره. بعد مسار امتد لأكثر من عقدين من الزمن وجدت لوحاتها ومنحوتاتها مكانتها في مجموعات فنية بارزة في بعض العواصم الدولية (الولايات المتحدة الأميركية وسويسرا وإيطاليا وفرنسا) فضلاً عن معارضها الفردية ومشاركتها في بينالات عربية ودولية، (لندن وتركيا والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإيران والكويت ومصر ولبنان). نالت العديد من الجوائز بينها جائزة بينالي فلورنسا عام 2003.
مبدأ الزمان والحركة
في معرضها الحالي "رحلة في الأقليّ" Minimalist Journay، تتنقل سلوى زيدان بمهارة بين الوسائط والخامات المتنوعة، من خلال مجموعة من الرسوم واللوحات ذات التقينات المختلطة، والمنحوتات ذات الأحجام الكبيرة المنفذة على الرخام الأبيض والأسود، والأعمال المفاهيمية المبتكرة باستخدام الفولاذ المقاوم للصدأ والمواد المركبة، تشكل دعوة للغوص في استكشاف أسلوبها الفني القائم على محاكاة الذات بلا قيود والتعبير عن مشاعرها بلغة اللون والشكل مدفوعة بمتابعتها الدؤوبة لإدراك الزمن في حقائقه الداخلية بحثاً عن المستقر العاطفي للسكينة والنورانية، وسط المدارات الصاخبة التي تعيش في خضمّها طوال أكثر ثلاثين عاماً.
إن مبدأ الزمان ومبدأ الحركة متلازمان ليس وفق توجهات العلماء ورواد التجريد الغربي فحسب، بل إذا ما خَطَوْتَ أكثرَ من ذلك في روح مدرسة ابن سينا وَجَدْت أن مبدأ الزمان تابع لمبدأ الحركة، قوله: «لا يُتصوَّر الزمان إلا مع الحركة، ومتى لم يُحَسَّ بحركة لم يُحسَّ بزمان».
في هذا السياق نتطلع إلى منحوتات سلوى زيدان المُنشأة كلها على مفهوم واحد متعلق بالحركة في تكاوين حلزونية مقفلة أو مفتوحة أحياناً، هذه التكاوين الحلزونية ليست غريبة عن نتاجات فنانين معاصرين (لا سيما تجارب النحات الفرنسي برنار فونيه Bernar venet)، ولكنها في بحوث سلوى زيدان تأخذ مقترباً حروفياً (من أشكال الحرف العربي) وحركياً نابعاً من انتمائها الشرقي وثقافتها الغربية في آن واحد، كما أنها منبثقة من رسومها الحبرية (على الكرتون المقوى) التي تعود لعام 2004 المتميزة باللطخة اللونية المطبقة باللون الأسود، المنفذة بقوة الانفعال والحركة التي تتردد صداها وفق أنماط دائرية أو قوسية على ترابط روحي مع قوة التلطيخ في أعمال رائدة التجريد في لبنان إيفيت أشقر.
لعل أهمية رسوم سلوى زيدان أنها تخطت مفاهيم التجريد الأقليّ المنبثق من مدرسة نيويورك (فولز وموزرويل وفرانز كلاين..) والمتصل بالفن المفهومي، إلى خصوصية تفرّدت في اعتبار التأمل جزءاً من الحركة والانفعال الخطي - الغرافيكي، الذي لا يلبث أن يغتني بالمقامات اللونية الباردة والحارة المجاورة لدينامية ضربات الأسود. هذا المقترب التجريدي في التعبير اللوني يقترن بميزات التلقائية المدهشة، حين وهبت الفنانة في رسومها اللطخة اللونية شكلاً إنسانياً (قوام امرأة عارية)، مجرداً وموجزاً وإيحائياً ببراعة تشبيهية متصلة برؤيتها الشخصية ومنفتحة على الحياة.
والأهم هو كيف تنسج سلوى بسلاسة بين الشكل الحلزوني ودوائر الحياة التي ترمز بنظرها إلى حركة البشرية التي تدور باستمرار في بندول داخلي من التطور الأبدي.
هذا المفهوم يتراءى في نهجها الكليّ رسماً ونحتاً على حد تعبير الفنانة: "أعمالي الأخيرة تميل إلى الاختصار لم أعد أرى ضرورة للكثير من التفاصيل التي كانت تزدحم في لوحتي. أصبحت أعمالي أكثر نقاءً ووضوحاً وأكثر بساطة في الوقت نفسه. للّون الأسود حضور بارز ومهيمن لأني أشعر أنه يمتلك قوة وطاقة رمزية إيحائية لا تمتلكها الألوان الأخرى... أن لحريتي وإصراري على التجريب المستمر له الدور الأول في تطوير عملي واطلاعي الدائم على الكثير من التجارب العربية والعالمية أغنى تجربتي وفتح أمامي المجال لكي أكوِّن ثقافة بصرية قوية قد يكون لها أثر ما في أعمالي".
وصف الشاعر أدونيس التجريد الأقلي في لوحات سلوى زيدان من زاوية المرئي واللامرئي (في نص يعود لعام 2002) معتبراً أن الضوء والظل كمثل موجة واحدة، ينبجسان دفعة واحدة في فيض واحد قوله: "تتحقق الوحدة بين الظاهر المرئي في اللوحة والباطن غير المرئي، بين ماديتها وصوفيتها ولا نرى هنا تناقضاً بين التقنية والصوفية، بين شهوة القلب وتأمل العقل. تسيل المادة والروح معاً، شكلاً واحداً، وبنية واحدة، في تفجير واحد. تتداخل إيقاعاتهما وتتألف وتتشابك في بناء مفتوح. كأن الوجود وأشياءه تتنمنم وتتحول في اللوحة إلى موسيقى. وهو تحول يتم في انفعال غنائي ينطرح فيه العمل الفني على القماشة، بين أحضانها، كمثل موجة تنطرح ببساطة الماء وصفاته وحركيته بين أحضان الشاطئ".