"بساطة دائرية"، عنوان المعرض التكريمي للفنان البحريني راشد بن خليفة آل خليفة، الذي يقام حتى 26 تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، في المتحف الصغير (Das Kleine Museum) في ولاية بافاريا الألمانية، متضمناً سبعة أعمال فنية مختارة من روائع إنجازاته في الفن البصري، تعبر عن أسلوبه النابع من نظرته الشمولية للكون، ومن إعجابه بالدائرة كرمز لصيرورة الحياة وكحركة شعرية تجسد الطبيعة الدورية للوجود.
لورا كراينز ليوبولت، مالكة ومؤسِسة "المتحف الصغير" كانت قد اكتشفت نماذج أعمال الفنان راشد آل خليفة في معرض أقيم في النمسا العام الماضي، وأبدت إعجابها بما تتسم به هذه الأعمال من جهد مبذول لفهم حركة الدوائر الثابتة والمتحركة، وما تتضمنه من قوة في التعبير عن جماليات دوائر تتجلى كوجود يتكاثر بنفسه لمجرد لذة الوجود. دوائر تنساب في رقة ونعومة وهي تتفتح كحركة نوافذ مُتقلبة، تتراءى مثل الفتح والإطباق، لكنها لا تتغير في إيقاعاتها الشعرية التي تروي في لمحة واحدة مرايا ما تحمله من طاقات الانسجام والحرية والخفة والبساطة.
اختارت السيدة لورا سبعة أعمال لتعرض في المتحف الصغير كسبع نوافذ تربط خيوط الماضي والحاضر والمستقبل بمفهوم الدائرة والبساطة. تقول "كلُّ واحد منّا يصبّ عشقاً، بين الحين والآخر في شيء يراه. هذا ما وجدته حين رأيت أعمال راشد آل خليفة. وجدت فيها الأفكار التي يعتبرها الفلاسفة نسمة حياة. في أعماله تخضع الدائرة إلى أبعاد فلسفية ورياضية. الدائرة في أبسط أشكالها هي خط قائم بذاته بدون بداية أو نهاية. عالمياً، يُنظر إلى الدائرة على أنها رمز للكمال والوحدة، إذ يمكن لجميع جوانب الحياة المتعارضة أن تتعايش عبرها، فضلاً عن كونها تمثل الطبيعة الدورية للحياة". واعتبرت أن هذا المعرض يشكل خطوة أولى في مدّ جسور التعاون الثقافي والفني بين ولاية بافاريا ومملكة البحرين.
تغيرات فتحات الضوء - ألوان معدنية على ألمنيوم - 2024
نوافذ على سطح مُحَدّب
خلال زياراتي المتكررة لورشة متحرفه في البحرين منذ عام 2014، ومتابعتي للمراحل التطورية لأعماله، وجدتُ أن الثورة التي قادها راشد آل خليفة على السطح المستوي للحامل التصويري، واشتغاله على التأثيرات البصرية للسطح المُحَدّب Convex، قد أوصله إلى نتائج غير متوقعة، في دمجه بين ثقافات الماضي الحضاري والرؤى المستقبلية في الفنون المعاصرة. ذلك ما أعطى أعماله البعد الفلسفي في تطلُّعه إلى الفضاء، فضلاً عن طابع الفخامة والبساطة والغموض.
يُعتبر الفنان راشد آل خليفة (من مواليد البحرين 1952) الأب الروحي لمنطلقات الحداثة في فنون مملكة البحرين، وهو من الجيل الطليعي الذي أطلق ركائز الفن الحديث والمعاصر في معارض دول الخليج العربي.
ذهب في أعماله طوال عقود إلى الخيارات المفتوحة ما بين التجريد والواقع، قبل أن يصل إلى الجوهر الشمولي لصياغة ابتكارات اللوحة المُحَدّبة التي تكرّست كبصمة خاصة في نتاجه في مستهل الالفية الثالثة.
ومن من بوابة الفن البصري الذي أصبح سمة الفنون العالمية المعاصرة، استخدم راشد آل خليفة في تجاربه المتتابعة على اللوحة المُحَدّبة سطوحاً معدنية من الألمنيوم (منذ عام 2010)، كما استخدم الألوان المعدنية الزاهية والكامدة واللماعة، ما أعطى جماليات إضافية لأعماله المنحازة إلى التجريد الأقليّ Minimal art.
ساهمت اهتماماته بمسائل العلوم في تنوعها للوصول إلى منهج جديد في تكوين قوالب ذاكرة الدائرة وهي تتحرك بشكل قطريّ، فمرةً تصبح نصف دائرة في شكل قوس، أو جزءاً من دائرة، وتتكرر لتتلبّس أشكالاً هلالية، كأنها تسجيل لمنازل القمر وحركته في السماء كما يتبدى لعيوننا على مدار الشهر. هذه التشكيلات من الفُتحات المتحركة على محور ثابت، تُذكّر بالمفهوم الأرابيسكي في نوافذ مهندس معهد العالم العربي في باريس جان نوفيل.
إنها تشكيلات في بساطة إيقاعاتها المتحركة تؤكد رغبة الفنان آل خليفة في التبسيط والخروج إلى العراء الهندسي المتطرف في إبراز الدقة المثالية في تقطيع السطوح الدائرية والتحكم بحركتها وإيهاماتها بطريقة تركيبية جديدة في علاقات يصفها الفنان بأنها: "مذهلة للغاية لارتباطها بالحقائق الرياضية والحياتية"، فهي تتبع كما يقول: "قواعد التكرار، وهي من أهم المبادئ الجمالية للفن الإسلامي. تواتر وتكرار شكل ما - مهما كان معقداً - قد يخلق وهم اللا نهاية، الذي ينشأ عنه الانسجام".
انعكاس دائري - 2024 ألمنيوم عمل تركيبي للفنان راشد آل خليفة
الروشانات وإشارت المكان
ينطلق الفنان في أسلوبه الاختزالي من مبدأ "الدائرة الشكل-الشكل الدائرة" التي ترتبط بالأبعاد الفلسفية التي ازدهرت على أساسها الفنون الإسلامية وكذلك بتأثيرات الفن التجريدي الصافي الذي أصبح على حد قول فازاريللي Vasarely "نقياً كالكريستال وكالشعر الجديد لمرايا عصرنا". في بعض أعمال راشد آل خليفة بإمكاننا أن نرى الإشعاعات والصور والألوان الآتية إلى مرايا السطوح المعدنية المحدّبة ذات البريق، كإنعكاسات من عالم الخارج. هكذا تتحول اللوحات إلى مرايا تعكس أطيافاً مشوشة وصوراً زائفة خادعة للناظرين الواقفين أمامها أو في محيطها. إذ إنها مجرد صور موهومة لسطح بصري منزلق، لا يحيل إلى أعماق نفسه، بل يراكَ ويحيل إليكَ ويستهدفك كناظر كما لو أنك الموضوع وأنت التيمة المبتغاة.
تستحضر الحوامل المُحَدّبة في تجارب راشد آل خليفة التكوين المقبب في "الروشانات" في تراث المعمار البحريني، وتتماهى مع الجذور الروحية لإشارات المكان، من خلال مفهوم التكرار. وهو التكرار الأرابسكي الذي يعبّر عن نوع جديد من الأصالة، لا سيما أن جلال سيمياء العزلة في البيت العربي يتجلى في صروح فضاءات "الروشانات"، ويشكل بحد ذاته دعوة للبقاء فيه، فلا نَبعُد عنه إلا ونشتاق العودة إليه. إنه ركن لنوافذ تعكس ستائر فتحات حزمات النور، وهناءة الاستمتاع بديناميكيا الكتل الهوائية وانبعاث الإشعاعات الضوئية. فالمتحركات الميكانيكية البحتة التي تولدها حركة الريح وجدها الفيلسوف الفرنسي إتيان سوريو، كنوتات موسيقية في الأرابسك. في هذا السياق تبدو رغبة راشد آل خليفة في استنطاق حركة النوافذ الدائرية في عمارات لوحاته المحدّبة، بمثابة أوهام بصرية، تدل إلى التوازن بين المرئي واللامرئي وبين المعقول والمحسوس وبين العقلاني والحدسي.