افتتح المهرجان الدولي للمسرح التجريبي دورته الحادية والثلاثين بالعرض المسرحي "صدى جدار الصمت" للمخرج اللبناني وليد عوني، يقدم العرض تسلسلاً تاريخياً للقضية الفلسطينية ومأساتها الراهنة، يحضر فيها صوت فيروز كبطل للعرص المسرحي في معظم لوحاته الفنية بأغانيها التي دعمت القضية الفلسطنية منها "هيا بنا، أنا لا أنساك يا فلسطين، يا قدس، قلبي معكم، خذوني إلى بيسان، سافرت القضية، هل ننام وبيتنا يسكنه غريب، راجعين".
يتماشى موضوع العرض مع التوجه الذي أبدته إدارة المهرجان في دعم القضية الفلسطينية، بدءاً من البوستر الدعائي لهذه الدورة تصميم للفنان محمد عوض، وحمل ألوان علم فلسطين وأغصان الزيتون برمزيتها، وحركة تشبه حركة الدبكة الفلسطينية المعروفة.
وفي هذا الإطار جاء عرض "صدى جدار الصمت" الذي لا يعتمد على نص حواري كما هي عروض فرقة "الرقص المسرحي الحديث المصري" التي تتكئ على اللوحات المشهدية الحركية مع الاستعانة بالعناصر المسرحية الأخرى السينوغرافية التي تضم الكتلة والضوء واللون والفراغ والموسيقى في الإحالة إلى المعنى الذي يراد إيصاله للجمهور.
جدار عازل
يكشف عنوان العرض عن العديد من الرسائل التي جاءت بداخله، بداية من كلمة "جدار" التي تحيل إلى جدار الفصل العنصري الذي يقطع أوصال فلسطين المحتلة، أما عن "الصمت" فهو إحالة على الصمت الدولي المطبق عما يجري في القطاع وفي فلسطين ككل من حرب إبادة جماعية.
تفتح خشبة المسرح بملاءات بيضاء لموتى، وفي الخلفية أشجار خضراء تتساقط أوراقها بسرعة على البلوكات الخرسانية التي تجسد جدار العزل، بما لسقوط أوراق الأشجار من دلالة إلى الموت وتسارع سقوطها على كثرة القتلى، خاصة مع المعقتد الشائع بأن هناك شجرة عند الله، مكتوباً على كل ورقة منها اسم واحد من الناس، وأنه متى سقطت فذلك عنوان موته، هذه الأوراق التي تتساقط في العرض ليست يابسة أو شاحبة اللون بل خضراء نضرة في إشارة إلى الشباب والنساء والأطفال الذين تقصف أعمارهم في ريعان أعمارهم، أما الشجرة فهي فلسطين التي تنزف أبناءها باستمرار.
ينهض الممثلون من مواتهم يرتدون السواد، ويتوجهون إلى مقدمة خشبة العرض، يضعون الملاءات البيضاء على شكل جثث أطفال على مقدمة خشبة المسرح، ثم تتصاعد أصوات الطبول مع إضاءات خاطفة مزعجة لتشكل صورة للواقع الذي يحياه أهل فلسطين على وقع القصف الدوري وآلاف الأطنان من القنابل التي يلقيها الكيان على القطاع المحاصر وشعبه الأعزل.
تعدد طبقات
تعددت الطبقات المشهدية والصوتية على خشبة المسرح بشكل لافت، ما يكسب العرض تنوعاً كبيراً، مع توظيف لكل عنصر من عناصر العرض ليقدم رسالة ما للجمهور، يستغل مساحات المسرح كلها، ففي أحد المشاهد على مقدمة خشبة المسرح نجد المرأة التي ترتدي الزي الأخضر دلالة إلى فلسطين، وفي وسط خشبة المسرح صور للمهرجين وهم يحملون ما استطاعوا حمله من أغراض منازلهم في نزوحهم من مكان إلى مكان، ويظهر صورة الجندي الذي يلقي بسهام مريشة في الفضاء دلالة الصواريخ التي تلقى على الشعب الأعزل، وفي الخلف على الجدار العازل تقف امرأتان ترتديان السواد وفي الخلفية صور حقيقة لنساء فلسطينيات يصرخن على أبنائهن. فهذا التعدد في مستويات خشبة المسرح يتبعه تعدد الإضاءة التي كانت تشكل علم فلسطين، مع الموسيقى وصوت فيروز وهي تغني للقدس، ويرافق ذلك أداء الممثلين الحركي المعبر عن المأساة الفلسطينية.
لوحة العشاء
هذا التراكم أعطى للعرض المسرحي زخماً كبيراً، وإشارات واضحة إلى قضايا بعينها، مثلما هي الحال في مشهد لوحة العشاء الأخير التي جسدها أبطال العرض على خشبة المسرح في تماس مع الجدل الذي حدث في حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024 في تجسيدهم الساخر لهذه اللوحة. بينما أعاد عرض وليد عوني هالة القدسية لهذه اللوحة التي ترتبط بحدث جرى في أرض فلسطين، ومنها خرج المسيح عليه السلام.
ومن هذا المشهد تُتابع اللوحات التي ترصد التحولات التاريخية التي مرت بها مدينة السلام، من الفتح العمري الذي يعبر عنه صوت الأذان، مروراً على الاحتلال الصليبي وتحرير صلاح الدين الأيوبي لها في القرون الوسطى واستعادة بيت المقدس إلى أحضان العرب مرة أخرى، ذلك المشهد الذي يصاحبه صوت أم كلثوم وهي تغني "سترجع الأرض إلى أهلها، محفوفة بالمجد والسؤدد، والمسجد الأقصى إلى ربه، مزدهيا بالركع السجد، ستشرق الشمس، ستشرق الشمس على أمة، لغير وجه الله لن تسـجد"، وصولاً إلى المشهد الحالي حين تتدلى من سقف خشبات المسرح فساتين عرائس ترتديها الممثلات ويتوجهن إلى مقدمة خشبة المسرح وينثرن من بطونهن الممتلئة وروداً تُلْقى على الجمهور وخشبة المسرح، في إشارة إلى الشهداء الذين تنجبهم الأمهات الفلسطينيات.
علم فلسطين
أعاد العرض توظيف قطع الديكور والملابس في أكثر من لوحة بدلالات مختلفة، فالملاءات البيضاء التي أشارت إلى جثث الأطفال، تحولت في لوحة أخرى إلى عباءات رومانية للإشارة للمرحلة الرومانية، وفي لوحة ثالثة جُسدت طاولة العشاء الأخير بهذه الملاءات، يصاحبها صوت فيروز تغني "يا قدس يا مدينة الصلاة" فيما تشكل الإضاءة علم فلسطين بألوانه المعروفة الأحمر والأخضر والأسود والأبيض.
حتى بلوكات الجدار العازل أعيد توظيفها بأكثر من صورة استخدمت كخلفية تتراءى عليها للمتفرج صور ثلاثية الأبعاد للأشجار أو قبة الصخرة، أما توظفيها الأمثل فتمثل في تحريكها على خشبة المسرح بصور مختلفة، يحركها لتقسيم خشبة المسرح عرضياً إلى نصفين يتسلقها الممثلون ويحاولون العبور من جانب إلى جانب، في إشارة إلى ما يفعله أهل فلسطين مع جدار الفصل العنصري وهم يحاولون عبوره لرؤية ذويهم الذين حرمهم هذا الجدار اللا إنساني من رؤيتهم.
وفي نهاية العرض يحرك المخرج البلوكات إلى الأمام لتحاصر رؤية الجمهور وتمنحه إحساس العزلة وضيق الأفق ليشاكل ما يصنعه هذا الجدار ويعطي الحالة النفسية الخانقة نفسها.
فيروز
العرض الذي غاب عنه الحوار لعبت فيه الأغاني الدور الأبرز، فكانت البديل الذي يفسر الكثير من المشاهد التي ربما يستغلق فهمها على الجمهور في عرض حركي راقص. وجاءت الأغاني كلها معبرة عن القضية الفلسطينية، كان الحضور الأكبر فيها لصوت فيروز أكثر من غنت لفلسطين، ثم أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب. ومن اللوحات المهمة التي لعب فيها صوت فيروز دوراً مهماً في دلالة المشهد عندما يدخل الممثلون إلى وسط خشبة المسرح، يجلسون على كراسي حمراء اللون يضعون على رؤوسهم أكياساً بلاستكية شفافة، فيما يأتي من الخلفية صوت أغنية سافرت القضية كاملة "سافرت القضية تَعرضُ شكواها في رُدهة المحاكمِ الدولية، وكانت الجمعية قد خصصت الجلسة للبحث في قضيّة القضيّة، وجاءَ مندوبون عَن سائر الأُمم جاؤوا من الأُمم، من دول الشمال والجنوب، والدولِ الصّغيرة، والدّولِ الكبيرة ،.. في طريقِ الحلّ ... وحين جاء الليلْ .. كانَ القُضاةُ تَعِبوا.. أتعبَهُم طولُ النّقاش ..فأغلقوا الدّفاتر وذهبوا للنوم".
تلك الأغنية التي تعبر عن واقع القضية الفلسطيينية والاجتماعات التي تقام في الأم المتحدة، لكنها في النهاية تسفر عن لا شيء سوى استمرار معاناة الشعب الفلسطيني الأعزل يعاني ويلات القصف والدمار والنزوح والجوع والمرض.
المقاطعة
وفي وسط لوحة اجتماع الأمم المتحدة الهزلية تدخل امرأة ترتدي فستاناً مصنوعاً من منتجات المقاطعة، ربما في إشارة من المخرج إلى تشابه عبثية نقاشات الأمم المتحدة مع دعوات المقاطعة بينما تستمر حرب الإبادة دون أن يقف في وجهها أحد، ويتبع هذا المشهد لوحة لجرّافتين تدهسان بكل قسوة جسد امرأة ترتدي فستاناً أخضر في إشارة إلى ما يجري في فلسطين.
ثم لوحة أخرى للممثلين يرتدون زي الصحافة وفي أيديهم صناديق عليها أرقام، وحين يضعونها على رؤوسهم ويديرونها تظهر من كل ناحية صور الشهداء من الصحافيين الفلسطينيين مثل شيرين أبو عاقلة والعشرات غيرها، دلالة إلى أن قتل الصحافيين وعدد القتلى في فلسطين أصبح مجرد رقم، ثم يظهر مقطع فيديو لطفل من القطاع يشكو الوضع المأساوي الذي يعيش فيه.
راجعين
وينتهي العرض المسرحي بتفكيك الجدار العازل، لتخرج طفلة ترتدي فستاناً وردياً وتحوله إلى أرجوحة عبر ربط حبل بين بقايا الجدار الفاصل، فيما يأتي صوت فيروز بأغنية "راجعين يا هوى راجعين، يا زهرة المساكين"، ويسبق هذه الأغنية مقطع لأم كلثوم وهي تنشد "راجعين بقوة السلاح راجعين نحرر الحمى راجعين كما رجع الصباح"، في رسالة متفائلة بانتهاء الوضع المأساوي في المستقبل بتفكيك جدار الفصل العنصري، وطفولة سعيدة بعيداً عن القصف والدمار، والرجوع إلى الوطن.
وما يجدر الإشارة إليه هنا ألوان الملابس التي جاءت قصداً لتقديم رسائل واضحة سيطر عليها اللون الأسود طوال فترات العرض، ولم يخرج عنها إلا في مشاهد محددة باللون الأخضر دلالة إلى فلسطين، واللون الوردي لطلفة في نهاية العرض إشارة إلى مستقبل أفضل، الكوفية الفلسطينية في إشارة إلى الهوية. واللون الأبيض في مواجهة الأسود في دلالة إلى الصراع بين الخير والشر، عموماً كانت لوحات هذا العرض شديدة التركيب ومتعددة المستويات والدلالات، تقول بالأداء الحركي والموسيقى ما تعجز أن تعبر عنه اللغة المنطوقة.