"كولا" بطلة فيلم "آخر سهرة في طريق ر"، جديد المخرج والكاتب السعودي محمود صباغ، ليست بركة أو "بيبي" في "بركة يقابل بركة" (أول أفلام صباغ الروائية الطويلة - 2016)، ولا هي "عمرة" في "عمرة والعرس الثاني" (2018).
هي لا تصارع واقعها لتغيّره، ولا تضيق ذرعاً به، بل هي متصالحة مع واقعها بوصفها مغنية أفراح وحفلات خاصة أو "طقاقة"، وهي في طريقها لتصبح "صولا" اسمها الجديد، والذي بمجرد أن تلقّب به يصل الفيلم نهايته ويتضح مغزاه، ونحن نرى (أبو معجب) وحيداً في صحراءٍ مترامية!
تحتكم شخصية كولا سالمين (جسّدتها باقتدار المطربة السعودية مروة سالم في أوّل دورٍ سينمائي لها)، على خصال ومزايا متمثلة بصوتها، حضورها، جمالها، خفتها، تشكّل ماضيها وحاضرها، وبالتالي فإن مستقبلها ليس مجهولاً، بل يحمل وعوداً تقودها إلى دروب الشهرة، وخروجها من واقعها المرتبط بـ (أبو معجب)، إلى آفاقٍ جديدة تتناغم والمتغير في السعودية.
فإنْ كان الفيلم آتٍ بشكل أو آخر من "أندر غراوند" جدة، فإن خروج كولا منه إلى عالم الأضواء والشهرة، سيعني تحويل ممارستها الفنية من الحفلات والمناسبات الخاصة، إلى المسارح والمواسم ووسائل الإعلام، وانتقالها من الهامش إلى المتن.
يشكّل ما تقدّم هاجس بطل الفيلم أبو معجب (عبدالله البراق)، وهو يستشعر بأنه قد يفقد "كولا" في أية لحظة!
لكنه لا يفعل شيئاً ليتفادى ذلك، لا بل إنه لا يفعل أي شيء يجابه فيه المتغير حوله، فهو يريد لكل شيء أن يبقى كما كان مع والدته المغنية "كاكا" التي ورثت عنها "كولا" الغناء، أن تبقى فرقته مقتصرةً على عازف الأورغ وخبير الصوتيات سيلفر (سامي حنفي) وعازف العود الأعمى طرفي (رضوان جفري)، وهو يتجول بشاحنته الصغيرة برفقتهم في أرجاء جدة، يتلقّى طلبات حفلات الزواج والطلاق وكل من يحلو له أن يطرب من رجال ونساء، فرادى أو جماعات، وأن يجمع الغلّة، ويلفّ كل مبلغ يتلقّاه كخرطوشة، ويودعه في حزامٍ جلدي كالذي يرتديه الصيادون.
طاقم العمل
صراع مع النفس
صراع "أبو معجب" في الفيلم، هو صراعه مع نفسه ومخاوفه، وهو قائم خارجياً على ردّ الفعل وليس الفعل، وهو ماضٍ نحو الخسارة بلا أدنى شك! هو ليس شخصية كوميدية، بل مزيج من كل شيء، لا بل إن كوميديا الفيلم قائمة بشكل أو آخر على سيلفر، ومواقف تحصل بين الفينة والأخرى، تهيمن عليها المبالغة والقولبة، والانتقال من مشهد خارجي إلى داخلي تباعاً، من شوارع وحارات جدّة، إلى بيوت وأماكن السهر السرّية أو الخاصة، فمع كل حفلة ثمة موقف كوميدي أو مفاجأة غير سارة على الأرجح بما يحقّق مفارقة على صعيد العوالم والشخصيات، رفقة غناء مروة سالم وتنويعات الأغاني المستعادة من التراث الشعبي للجزيرة العربية. كما هو الحال مع (أبو سُراقة) الذي ينتمي إلى الحيتان السابقين، والمتهم بالفساد الأشبه بـ "غانغستر" أو أحد أباطرة المخدرات في أفلام كثيرة أخرى، وهو يطلب من (أبو معجب) أن يطلق النار عليه بينما "كولا" تغنّي له، فإذا بأبي سراقة يطلق النار على الببغاء "أم سوسو"!
وبالمقابل، فإن شخصية "كولا" واضحة المعالم، متصالحة تماماً مع نفسها، واثقة من صوتها وموهبتها، تجامل وتساير وتسرق متى أتيح لها، لا تجابه أبو معجب إلّا من باب ردّ الفعل وليس الفعل أيضاً.
هذا هو الحال، على سبيل المثل، حين تكتشف زبونة قديمة سرقة كولا لذهبها، فإنها لا تتوانى عن فضح "أبو معجب" وأمه، حين يشنّع هذا الأخير بها، وهو بذلك يخسر أقدم زبونة له، لا بل إنه وطيلة الفيلم يسعى إلى أن تعود أيام زمان، أيام حيتان الماضي محبي السهر والطرب، ويحصّل من الأموال كما في السابق، إلّا أن كل ما يصادفه مخيّب، وحين تكون الأمور واعدة فسيلفر كفيل بتخريب كل شيء.
يدرك "أبو معجب" أنّ كل شيء تغيّر من حوله، أو كما يقول "الحيتان الجدد ما لهم بالطرب... كله دي جاي"، ويتقوّى على ذلك بأن يكون نصف صاح، يشرب ويتعاطى ويدخن، بما يضمن مواصلة ليلته الطويلة، وكذا يفعل سيلفر الذي لا يوفر أي شراب، ومبتلعاً لكل حبوب الهلوسة التي يقع عليها.
أما الصعاب التي يواجهها أبو معجب، فهي لا تتواجد على الطريق بل خلف الأبواب الموصدة، هذا إذا استثنينا "أمير الحبوب" الذي يلاحقه يريد تحصيل فلوسه كما في أفلام العصابات، حيث يقطع له إصبعه ويبصم بها، ولا أعرف ما إذا كان هذا كوميدياً أو أنه كوميديا على طريقة الأخوين كوين! وهذا يدفعني للقول إن في الفيلم مستويات متعددة ومتداخلة: كوميديا كامنة في التوقع والنتيجة؛ بين ما يراهن عليه (أبو معجب) وفرقته والمآزق التي تواجههم والهروب منها المتبوع بالخيبة. رصد المتغير والجيل الجديد وعوالمه شديدة البعد عن أغاني "كولا" التراثية، والبعيدة أيضاً عن عوالم المدينة الخفية والسرّية، التي يفتح الفيلم أبوابها الموصدة، مع الإصرار على وضع العوالم السفلية بجانب الخفية، وتوليد خط تحفيزي عبر مطاردة (أبو معجب) من قبل "أمير الحبوب"، وليجتمع كل ذلك في ليلة واحدة، هو زمن الفيلم.
أعود لما بدأت به من أفلام محمود صباغ، والتي تشكّل مجتمعة رواية موازية للمتغيرات التي تشهدها المملكة، وعملية رصد للنسيج الاجتماعي، وبحس ساخر لا يفارقها. فظروف ومحيط وملابسات قصة الحب في "بركة يلتقي بركة"، لا وجود لها في "آخر سهرة في طريق ر"، ما من "هيئة" تلتقط الصور أمام قناني الكحول المصادرة، ولا اللقاء بين الحبيبين يستدعي الحيطة والحذر، ولا شهرة "بيبي" بوصفها مؤثرة في الـ"إنستغرام " حالت دون أن تكون مسلوبة الإرادة في البيت وعليها أن تصارع ذلك، كذا الأمر مع "عمرة" في "عمرة والعرس الثاني"، وهي تصارع على كافة الجبهات وكل السلطات الدينية والاجتماعية والاقتصادية لكي تمنع زواج زوجها من امرأة ثانية.
"كولا" في "آخر سهرة في طريق ر" آتية من مكان آخر، من القاع، من الهامش، والنساء فيه يحتفلن بالطلاق، يرقصن ويشربن ويدخن.
"كولا" هي الخروج من ليل أبو معجب الطويل، ومع طلوع الفجر تمسي في مكان آخر، بينما يبقى أبو معجب وحيداً، هو والصحراء ولا ثالث لهما.