النهار

زلزال "بيجر" فصلٌ من "Black Mirror": حين يتحوّل الخيال العلمي واقعاً...
شربل بكاسيني
المصدر: بيروت - "النهار"
السابع عشر من أيلول (سبتمبر) 2024.
زلزال "بيجر" فصلٌ من "Black Mirror": حين يتحوّل الخيال العلمي واقعاً...
Black Mirror
A+   A-
السابع عشر من أيلول (سبتمبر) 2024. إشعاراتٌ بشأن رسائل مشفّرة تصل أجهزةً بحجم راحة اليد، فترتجف لها وتُطلق تنبيهات صوتيّة. إنّها ساعة الصفر، أجهزة الـ"بيجر" التي ساد اعتقادٌ أنّها ما عادت تُصنَّع، وأنّ النسيان طواها، تنفجر واحداً فواحداً.
 
صدمةٌ، ولا تفسير. قنابل موقوتة زُرعت في مناطق عدّة على امتداد لبنان، قتلت في لحظات 12 شخصاً وجرحت نحو ألفين و800 آخرين، وتلتها موجة ارتدادية في اليوم التالي، مع تفجير أجهزة "Icom" لاسلكيّة، لترتفع الحصيلة إلى 37 قتيلاً و3 آلاف و539 جريحاً.
 
يبدو المشهد اللبناني السريالي حلقةً أفلتت من سلسلة الأنثولوجيا البريطانية "بلاك ميرور" (Black Mirror/المرآة السوداء) التي أعدّها تشارلي بروكر، وتستكشف الجوانب المظلمة للمجتمع الحديث وديستوبيا المستقبل القريب، لا سيما العواقب غير المقصودة للتكنولوجيا الجديدة.
 
 
مستقبل بائس وتكنولوجيا مدمّرة
مواقع التواصل الاجتماعي تغصّ بتغريدات تُشبّه ما حصل في لبنان بأجواء "بلاك ميرور". الاستغراب سيّد الموقف، في عالم يسيطر عليه التطور التكنولوجي والاجتماعي على حياة الأفراد بطريقة مخيفة وغير متوقعة. فكما في حلقات المسلسل، تكشّف في لبنان سيناريو يحمل في طياته عناصر من الخيال العلمي المظلم.
 
في جوهرها، تعكس "بلاك ميرور" القلق الاجتماعي في شأن وتيرة التطور التكنولوجي السريعة. لا تتنبّأ السلسلة بالمستقبل بقدر ما تعرض سيناريوهات كابوسية قابلة للتحقق تعتمد على الاتجاهات الحالية.
وغالباً ما تدور هذه السيناريوهات حول موضوعات مثل المراقبة، التلاعب الاجتماعي، الخصوصية الرقمية، أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وإمكانية تحكّم التكنولوجيا بالبشر وإلحاق الضرر بهم بدلاً من تمكينهم.
 
كلّ حلقة هي عبارة عن قصة مستقلة، ترسم ملامح مستقبل بائس يؤدّي فيه التطور التكنولوجي المتسارع إلى نتائج مقلقة.
 
 
تسليح التكنولوجيا
يتكرّر موضوع تسليح التكنولوجيا في "بلاك ميرور"، مثيراً الرعب من مستقبل ضبابي غامض للتكنولوجيا الحديثة المنحرفة. وتُظهر السلسلة كيف يمكن للتقنيات المبتكرة التي تُطوَّر لأغراض نبيلة أن تُستخدم كأدوات للتدمير والسيطرة.
 
في حلقة "Metalhead" (الموسم 4، الحلقة 5) التي بُثّت في 26 كانون الأول (ديسمبر) 2017، تستعرض "بلاك ميرور" كلاباً روبوتيّة مصمّمة للاستخدام الصناعي، تتحول إلى صيّادين قاتلين لا يرحمون في عالم ما بعد الكارثة.
 
بالعودة قليلاً إلى الوراء، إلى 21 تشرين الأول (أكتوبر) 2016 وحلقة "Hated in the Nation" (الموسم 3، الحلقة 6)، يتمّ اختراق نحل روبوتي صُمّم لحلّ مشكلة انقراض الملقِّحات، ليصبح أدوات قاتلة تُستخدم في عمليات اغتيال.
 
هذه القصص تكشف عن خطورة الاعتماد على التكنولوجيا من دون النظر إلى إمكانية استغلالها السيّئ، إذ تتحوّل الأجهزة "المحايدة" إلى أسلحة قوية في أيدي أطراف تسعى لإلحاق الضرر في مجتمعات أو السيطرة عليها والتأثير في أفرادها. ويُنظر إلى هذا الموضوع على أنّه تحذير من أنّ التقدّم التكنولوجي، من دون مراعاة الاعتبارات الأخلاقية، يمكن أن يُعاد توظيفه لإحداث الفوضى والدمار في المجتمع.
 
 
الخصوصية والأخلاقيات
في "بلاك ميرور"، يُسلَّط الضوء تكراراً على قضايا المراقبة والخصوصية وكذلك الذكاء الاصطناعي والأخلاقيات، وتكشف الحلقات عن المخاطر الكامنة في العالم الرقمي المتطور.
في حلقة "Nosedive" (الموسم 3، الحلقة 1) التي عُرضت للمرة الأولى في 21 تشرين الأول (أكتوبر) 2016، يُستعرض مجتمع يعتمد بالكامل على تقييم (rating) الأفراد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما يخلق نظاماً مرعباً من المراقبة الدائمة يتحكم فيه الآخرون بمصير الشخص بناءً على التقييمات الرقمية.
هذه الحلقة تُظهر كيف يمكن أن تؤدّي المراقبة المفرطة إلى تقويض الخصوصية وإحداث أضرار نفسية واجتماعية عميقة.

أمّا في ما يتعلّق بالذكاء الاصطناعي والأخلاقيات، فتستعرض حلقة "Be Right Back" (الموسم 2، الحلقة 1)، التي بُثّت في 11 شباط (فبراير) 2013، استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء نسخة رقمية من شخص متوفى، مثيرة تساؤلات حول الهوية الإنسانية وحدود التكنولوجيا في تقليد المشاعر والتفاعلات البشرية. هذا الاستخدام للذكاء الاصطناعي يطرح إشكالية أخلاقية حول قدرة التكنولوجيا على استبدال الأشخاص والتلاعب بالمشاعر البشرية، ويُبرز التوتّر بين التقدم التكنولوجي والقيم الإنسانية الأساسية.
 
يطرح الواقع اللبناني المستجدّ تفاقم أزمة الثقة لدى المواطنين في كلّ ما يتعلق بالمستقبل، مع تزايد الاعتماد على التكنولوجيا. وإذا كانت سلسلة "بلاك ميرور" تستعرض مستقبلاً تقوده التكنولوجيا إلى عواقب وخيمة، فإنّ لبنان يعيش هذا الواقع المرير بالفعل.
 
الاختلاف هنا أنّ اللبنانيين لا يشاهدون الحلقة، بل هم جزء منها، يعيشون تفاصيلها اليومية، وسط أزمات اقتصادية، سياسية، واجتماعية تعيد تشكيل مستقبلهم بطرق غير متوقعة، تماماً كما في حلقات سلسلة الأنثولوجيا البريطانية التي باتت مرادفة لكلّ ما هو غير متوقّع ولكلّ ما قد يصل إليه جموح الإنسان المدمّر، والتي دائماً ما تترك المشاهد مع شعور بالعجز والاضطراب أمام التطورات التكنولوجية والمجتمعية.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium