مسلسل "مليحة"، يُعرض ضمن النصف الثاني من الموسم الرمضاني، هو دراما إنسانية اجتماعية، حول أسرة فلسطينية تضطر إلى النزوح والهجرة إلى ليبيا عقب الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ولكن بعد أحداث ليبيا تضطر للعودة مرّة أخرى إلى غزة عن طريق مصر، فتواجه العديد من الصعوبات، العمل بطولة ميرفت أمين، دياب، أشرف زكي، أمير المصري، علي الطيب، حنان سليمان، مروة أنور، سيرين خاص وعدد من فناني فلسطين والعالم العربي، تأليف رشا عزت وإخراج عمرو عرفه.
ترقّب إسرائيلي
قبل عرضه، أثار "مليحة" الاهتمام والجدل في وسائل الإعلام الإسرائيلية التي ترقّبت عرضه، لتناوله القضية الفلسطينية، ومنها صحيفة "يديعوت أحرونوت"، بجانب قنوات تابعة لهيئة البث الإسرائيلي (الرسمية)، إذ عرضوا ضمن برامجهم أجزاء من تقارير حول المسلسل قُدّمت على شاشة التلفزيون المصري، وتناولوه بالمناقشة والتحليل عبر عدد من المتخصصين، راصدين أسباب إنتاج مصر له، ودعمها للقضية الفلسطينية.
وتطرّقوا الى مدى تأثير العمل الفني على الجمهور العربي، وقوة الدراما المصرية وعمق انتشارها وتأثيرها في المنطقة العربية، كما أثار توقيت عرضه اهتمامهم، واعتبروه استغلالًا لشهر رمضان الذي يشهد نسبة مشاهدة مرتفعة، وتجمع العائلات والجاليات العربية حول الشاشات.
"الترويدة" الفلسطينية
تُعدّ أغنية التتر "أصحاب الأرض" من العناصر المميزة، إن لم تكن أفضلها ضمن العمل، وهي أغنية مستقلة عن المسلسل، يُجهّز لها منذ أكثر من شهرين تضامناً مع القضية الفلسطينية، وأطلقتها الفنانة أصالة قبل عرض المسلسل بأسبوع، وتعاونت فيها مع فرقة "أكابيلا المصرية"، وفكرة وإخراج عادل رضوان، وحازت الإعجاب ومشاهدات كثيفة.
تُحيي أغنية "أصحاب الأرض" التراث الفلسطيني المعروف باسم "الترويدة" أو"المولالاة"، إذ طوّع الفلسطينيون الأغنيات لتصبح رسائل مشفّرة للتواصل مع المجاهدين والمقاومين للتوجيه وتبادل المعلومات خلال الاحتلال العثماني كي لا يفهمها المحتل، وكذلك استخدموها أثناء الاستعمار الإنكليزي، وتقوم "الترويدة" على قلب الحرف الأخير من كل كلمة وإضافة حرف اللام في نهايتها.
النيات الطيّبة لا تكفي
يربط "مليحة" الماضي بالحاضر، منذ إعلان قيام دولة إسرائيل حتى عصرنا الراهن والإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الفلسطينيون في غزة، كما يرصد بالتوازي دور الجيش المصري في حماية الحدود، متطرقاً لفترة 2012 وما بعدها، التي شهدت مرحلة حرجة وأوضاعًا داخلية صعبة، واجهت فيها مصر الكثير من العمليات الإرهابية في المناطق الحدودية الملتهبة شرقًأ وغربًا، ودور القوات المسلحة عمومًا وسلاح حرس الحدود خصوصًا في حفظ الأمن القومي المصري.
ترقّب المتابعون المصريون عرض "مليحة" باهتمام بالغ، نظراً الى تزامن عرضه مع الحرب الجارية في غزة، والإبادة الجماعية التي نشاهدها يومياً عبر الشاشات.
ورغم الدعاية الكبيرة المسبقة التي بشّرت الجمهور بعمل واعد، لم يكن المسلسل على قدر التوقعات، ولم يُرض سقف هذه التطلعات؛ وهو ما عزاه بعضهم لصناعته على عجل خلال فترة زمنية قصيرة للحاق بموسم رمضان، وربما لتطلبه ميزانية أضخم لم تتوفر له؛ فخرج غير متقن.
لعلّ من مميزات العمل، أنّ القضية الفلسطينية جاءت عنصراً أساسياً ضمن البناء الدرامي في "مليحة" وليست على الهامش، بعرض الأحداث في الحاضر يتخلّله الماضي بطريقة الفلاش باك، طارحاً معاناة العائلات الفلسطينية في التهجير والنزوح، بجانب الجزء الوثائقي السابق لتتر المسلسل" الأفان تيتر"، إذ يقدّم عرضاً وتوثيقاً موجزاً لتاريخ الصراع وبداية الاحتلال، مدعّم بالصور واللقطات التاريخية، وذلك بصوت الفنان سامي مغاوري، الذي لم يكن الاختيار الأنسب، فلم يكن موفقاً في الحديث باللهجة الفلسطينية التي لا يجيدها، وكان يمكن الاكتفاء بالتعليق بالعربية الفصحى، أو حتى الاستعانة براوٍ فلسطيني.
يُعتبر العمل بادرة طيبة لتبنّي وطرح القضية الفلسطينية فنيًا، لكن النوايا الحسنة ليست كافية دائماً لصناعة عمل جيد ومؤثر، فبالتأكيد هو يطرح قضية نبيلة، لكن محاولة الترويج له بوصفه عملاً "ملحمياً" يعدّ من قبيل المبالغة غير الواقعية، فهناك ضعف على مستوى الكتابة والتنفيذ والإخراج، واعتماد على كليشيهات في الحوار، فضلاً عن إيقاع بطيء ورتيب للأحداث، وجاءت مشاهد الأكشن والتفجيرات ضعيفة وغير متقنة، ووصفها بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي أنّها أقرب لـ"فرقعة بمب العيد".
وكان يُنتظر أداء تمثيلي قوي خصوصاً من الفنانين العرب المشاركين، لكنه جاء فاتراً وباهتاً، وليس على المستوى المتوقع.
ولا شك أنّ الأعمال الفنية تؤثر في صناعة الوعي وتحفيز مشاعر الوطنية، وتُعتبر أحد أدوات القوة الناعمة، لكن في المقابل لا بدّ من الحرص على جودتها حتى يتسنّى تقديمها للرأي العام الداخلي وللعالم، فلا نظل نخاطب أنفسنا بشكل محلي، وإلاّ فقدت تأثيرها والجدوى من صناعتها، لذا نحتاج لأعمال قوية تُصنع باحترافية، بمعالجة جديدة وقوية وليست ساذجة تعتمد على الكليشيهات، وهو ما يتطلّب عناصر فنية متكاملة على مستوى التمثيل والصورة والمؤثرات، لتكون قادرة على المنافسة لمواجهة البروباغندا الإسرائيلية ونقل الحقائق التاريخية الثابتة للأجيال والشعوب المختلفة.
وكان مسلسل "مليحة" بحاجة لمزيد من الإعداد والتحضيرات الكافية؛ ليخرج عملاً مؤثراً، خصوصًا أنّ مثل هذه الأعمال تكون تحت المهجر وتخضع للمقارنة.
البروباغندا الإسرائيلية
في المقابل، استغلت إسرائيل منصّات التواصل الاجتماعي خلال العقود الأخيرة؛ لمحاولة التسلّل للشعوب العربية وخصوصاً الأجيال الشابة التي لم تعاصر الحروب العربية- الإسرائيلية، أو الانتفاضات الفلسطينية المتعاقبة، وخصّصت صفحات ناطقة بالعربية لهذا الهدف، في محاولة تقديم صورة إيجابية لدولة الاحتلال وتغيير المفاهيم والثوابت، وشيطنة أي فصائل مقاومة، والترويج للسردية الإسرائيلية في محاولة للتطبيع مع الشعوب العربية.
كما أولت دولة الاحتلال الإنتاج الدرامي الذي يتناول صراعها مع فلسطين والعرب اهتمامًا كبيرًا، وحققت فيها شوطًا كبيرًا، طارحة من خلاله سرديتها للعالم بشأن هذا الصراع، لعلّ أبرزها مسلسل "فوضى" الذي عُرض في أربعة مواسم عبر منصّة "نتفليكس"، وحقق نجاحًا كبيرًا، واستُخدمت فيه استراتيجية بارعة تدسّ من خلالها السم في العسل؛ فقدّمت الفلسطينيين بوصفهم إرهابيين يهاجمون المجتمع الإسرائيلي، وأنّ ما تفعله اسرائيل هو مجرد ردع ودفاع عن النفس.
عُرض "فوضى" في نحو 190 دولة عبر شبكة "نتفليكس"، وحظي بنسبة مشاهدة مرتفعة وبينها كثير من الدول العربية. ويعدّ "فوضى" هو أحد الأدوات الناجحة في البروباغندا الاسرائيلية، ففي العام 2017، اعتبرته صحيفة "نيويورك تايمز" أحد أفضل المسلسلات العالمية لذاك العام.
كما أنتجت إسرائيل فيلم "الملاك"، الذي تبنّى روايتها حول عمالة أشرف مروان لإسرائيل، فيما أثار المسلسل الإسرائيلي "الجاسوس" عن العميل السرّي لإسرائيل في سوريا "إيلي كوهين" الكثير من الجدل، عقب بثه على شبكة "نتفليكس" العام 2019.
وصنعت شبكة التلفزيون العامة الإسرائيلية "كان" المسلسل التلفزيوني "طهران" العام 2020، وتُوّج بجائزة "إيمي" العالمية عن فئة أفضل مسلسل درامي، ودفع نجاحه الكبير شركة "أبل تي في"، لشراء موسمه الثاني وبثته على منصّتها العالمية.
الرسائل السياسية
أخيرًا، لا يمكن إغفال الرسائل السياسية التي يحملها إنتاج الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية (شبه حكومية) لمسلسل "مليحة"، ومنها التأكيد على دعم مصر (الرسمي) الدائم للقضية الفلسطينية، وربما تشهد الفترة المقبلة إنتاج مصر لمزيد من هذه الأعمال، لتعويض تراجع إنتاج الأعمال التي تناقش الصراع العربي- الإسرائيلي، بعد ازدهارها خلال عقود سابقة شهدت إنتاج أعمال مؤثرة مثل"رأفت الهجان" و "دموع في عيون وقحة" و"السقوط في بئر سبع" وغيرها. إضافة إلى أنّ هذا العمل قد يكون دافعًا ومشجعًا لدول عربية أخرى لإنتاج أعمال أضخم حول القضية الفلسطينية والصراع العربي- الصهيوني وتوثيق جرائم إسرائيل وتقديمها للعالم.