ميدان النقد الأدبي واسع وفسيح، ومذاهبُه وتيّاراتُه في جميع الآداب منذ القدم من الكثرة والتنوّع لا تُحصى.
المدوّنة النقدية جزءٌ لصيقٌ ومكمّلٌ لمدوّنة النصوص في آداب العالم أجمع، تساعد في قراءتها وفحص وتنظيم وحصر مضامينها ومعانيها وسُننها وأشكال بنائها وصياغاتها الفنية.
والنقد الأدبي كما في أصل الكلمة، يسمح بتمييز الصحيح من الزائف، إنّه "الغربال" (1923) بلغة ميخائيل نعيمة.
يرجع التعدّد والتنوّع في هذا الميدان إلى عوامل أهمها: اختلافُ مراحلِ وظروف ودواعي الإنتاج الأدبي؛ تطور المعارف الدارسة للأدب من لغة ونحو وبلاغة؛ الغِني المتزايد لمعرفة الإنسان بالعالم ومنشآته فيه؛ سيادةُ تيّار فكري أخلاقي سياسي ونظام قيم ورؤية للعالم في فترة معينة؛ تغيّر الأذواق والمشاعر وقابليات التلقّي ومستوياته من حقبة إلى أخرى.
ونحن في هذا كله نعني النقدَ لا نظرية الأدب التي تستخلص المفاهيم وتحدِّد الأنساقَ والمناهج.
كانت النظريات والتّوطِئات لفهم الأدب وتقسيم أجناسه وفروعه شعرًا ونثرًا وأغراضهما وأساليبهما سابقةً على إبداء الرأي والملاحظة وتقصِّي النصوص. أولها عند اليونان كتاب "البويطيقا" لأرسطو (ت322قم) وبعده "فن الشعر" لهوراس (ت8قم)، وعند العرب مثالاً: "كتاب الصناعتين: الكتابة والشعر" لأبي هلال العسكر (ت1005م) و"لعمدة" لابن رشيق (ت1064م).
أما في العصر الحديث حين أصبح للأدب معنى مختلفاً ومتطوراً بأجناسه وقوالبه وانتقاله من التعبير الخاص إلى القول العام، الرواية على الخصوص، فقد تجدّدت النظريات وارتبطت بمدارس أدبية محدّدة صارت تمثيلاً لها: الكلاسيكية والرومانسية والواقعية، وصولاً إلى منهجيات ومصطلحية لقراءة النص الأدبي وتحليله أكثر منها مدرسة. وفي جميع الحالات، فهي طرائق منبثقة من ثقافة وقضايا زمن ومعضلاته الموضوعية.
سقت هذه المقدّمة لأقول إنّ الأكاديمي المصري والناقد محمد الشحّات يقف في كتابة حديث الصدور "السرديّات الخضراء ـ مقاربات إيكولوجية في الرواية العربية"(دار العين للنشر، 2024) على واحد من أحدث وأخصّ تيارات النقد الأدبي التي ظهرت في العقود الأخيرة في الأوساط الأكاديمية الأنكلو سكسونية، ثم الغربية، مع حديث نظري وتطبيقي خافت عنه عربياً. يُعنى موضوعه بالنقد (الإيكولوجي l’Eco critique) المستمد من دراسة البيئة وعناصرها، فيدرس المتخيّل وعلاقات الناس بالمحيط في الأدب، نراه يجمع بين مصطلحي بيئة ونقد أدبي. معروف المكانة التي يشغلها موضوع الحفاظ على البيئة في المجتمعات الحديثة، الصناعية، وتحوّلها إلى حركات سياسية تدافع عن اختيارها نظير الحركات النسوانية ولها اليوم صوت مسموعٌ نافذٌ في الغرب ما فتئ يقوى وينتشر إزاء التلوث الكارثي وما يهدّد الكوكب من أخطار.
لنذكر بأنّ أول من دشّن مبحث (النقد الإيكولوجي= البيئي) هو الأميركي Joseph NeeKer باسم (الإيكولوجيا الأدبية،1074) ليعود حق المصطلح إلى william Rueeckert من جامعة نيويورك. في حين يُعتبر كتاب"The Environnemental imagination"(1995) لمؤلفه Lawrance Buell يعارض فيه بداية النظريات الأدبية المعاصرة من شكلانية، تفكيكية وسميائية.
ويقترح تقليص المسافة بين النص والعالم بالعودة إلى ما سمّاه nature writing كتابة الطبيعة، أي إلى الكتابات التخييلية المحتفية بالعالم الطبيعي، يراها تجسِّد واقعيةً جديدةً مختلفةً عن الواقعية الفرنسية لدى فلوبير وموبسان.
واقعية محورها تمثيل العالم غير البشري بنصٍّ بيئي أصبح ضروريًّا قياسًا لمشاكل البيئة المعاصرة. لذلك الكتابة عند بويل تعمل انطلاقًا من وعي بيئي لا تحدّه أي ثقافة.
وقد حدّد مذهبه بدقّة وحسم في كتابه المذكور بقوله: "ليس الأمر أن تكتب من أجل عالم في خطر، ولكن أن تقرأه عاماً في خطر. هكذا، على الناقد الأدبي أن يكشف عن إيكولوجية نص أدبي وليس النص الأدبي ما ينبغي أن يلتزم بجمالية واقعية".
بسرعة، تطوّر هذا النقد موسِّعاً مدار اهتمامه ليشغل فضاءات صناعية وعمرانية Kathy Wallas. كما يتعرّض لانتقاد ابتعاده عن النظرية الأدبية ومعالجته النصوص في ضوء حقائق علمية. يبقى مهمّا الإشارة إلى أنّ حقل الدراسات الخضراء (Green studies) شأنها شأن الدراسات الثقافية (Cultural studies) مجال بحث أميركي بالدرجة الأولى، أي أحادي اللغة، وتعثّر حضوره في الميدان الأكاديمي الفرنسي حيث الحرص على قراءة النص بوصفه إنتاجًا أدبيًا. ما بالك بالميدان العربي الذي يبقى غالبًا مقلّدًا ومتأخّرًا عن اللحاق بركب الموجات.
من هنا الأهمية القصوى للكتاب الذي أعدّه الأستاذ محمد الشحات، أول مبحثٍ جامعٍ، مفصّل ٍومبوّبٍ في نوعه، موثّق بمصادر ومراجع أصلية، الخاصة بالنقد الإيكولوجي وتاريخه وتياراته ومفاهيمه.
حرص فيه على التنبيه بدايةً إلى دراسات متفرقة في مجلات محكّمة مع غياب حضوره في المحافل الأكاديمية العربية. لذلك يمكن أن نعدّ كتابه هذا رائداً ومرجعاً معتمداً في ميدانه ومرشداً لدراسات أخرى ستليه بكل تأكيد.
ولنعرف أهميته فهو قسّمه إلى قسمين: الأول نظريّ، أبرزُ عناوينه تخصّ: المرجعية الثقافية؛ ما بعد الكولونيالية الإيكولوجية (السرد واستعمار الطبيعة)؛ موضوع النّسوية الإيكولوجية (الطبيعة والمرأة)؛ سردياتُ التغيّر المناخي (منظورات الإنسان والطبيعة؛ كيفية مقاربة النص الإيكولوجي؛ وما الذي يفعله الناقد الإيكولوجي؟ ومدخل هذه الفصول كلّها هو تعريفه للمصطلح (إيكولوجي مقابل البيئة، وقريب منها الطبيعة) جاعلاً منه "مجموعة العوامل التي تتمركز حول الطبيعة بمعناها المحسوس وما يحيط بها من عوامل وظروف مساعدة كالمناخ والطقس وعالم النبات والحيوان" (35).
بناءً عليه، يعرِّف النقد البيئي بأنّه: "ما يتخذ من فكرة الترابط الوثيق بين الطبيعة (=الإيكولوجيا) والثقافة (=الأدب) موضوعاً دقيقاً له بوصفه علماً"(36) دارساً القِطَعَ الأدبيةَ التي تغرس قدماً في حقل الأدب وأخرى في باطن الأرض.
وهو لا يحصر هذا النقد في الطبيعة وحسب بل بين ما يعيّن غرضه بانطلاقه: "من رؤية سياسية أو إيديولوجية تحمل هموم البيئة على عاتقها وتسعى إلى تحقيق اخضرار الرؤية سواءً بالنسبة إلى البيئة أو الأدب". ليخلص إلى أنّ: "النقد البيئي أسلوبٌ سياسيٌّ معلنٌ للتحليل"(37) على غرار مقاربات المسألة النسوية وما بعد الاستعمار.
القسم الثاني نعتبره الأهم والأفيّد في الكتاب الموثّق للأستاذ الشحات، المعنيُّ بالتطبيقات، فيه يظهر فهمُ الباحث لموضوعه ومنهجياتُ تحليله للنصوص الأدبية المشتغلة بتيمة البيئة، وهو الجهد المطلوب والأمثل. ذلك أنّ أغلب الدارسين العرب المعاصرين والمشتغلين بمرجعيات المدارس والنظريات الحديثة وما بعدها، يغرقون في التنظير وتشعّباته، وكلٌّ يريد أن يتفرّد بتفسير ممّا ينسيهم المهمّة الحقيقية عمدتُها النص، أولا.
قلةٌ منهم مؤهّلٌ لتحليله وجربة بدون جعجعة اصطلاحية واستعراضية نظريّاتية، تصبح هذه هي المطلب وهي متوفرة في مضانها الغربية وكثيراً ما تنقل مشوّهة ركيكة.
أمّا كتاب "السرديات الخضراء" فيولي العناية الكبرى لرصد وتحليل النصوص، لأعمال متخيّرة وجدها الباحث مؤاتية للخطاطة النظرية الدارسة للبيئة في النص الأدبي وفي ضوء محموله وتصور مؤلفه. بالرغم من حداثة اشتغال الكاتب العربي بهذه التيمة وكذلك بدايات مقارباتها نقديًّا.
لقد عثر الأستاذ الشحات على نصوص أساس، وهو شرط لقيمة الدراسة، لا أشتات، تمثيلات خضراء في السرد العربي: روايات ورحلات للمصري محمد المخزنجي تقدّم صور (المؤلف الإيكولوجي) سارداً للطبيعة، والوعي بالبيئة، وراسماً لمدينة اليوتوبيا الخضراء. منتقلاً بعد ذلك إلى تمثيلات سرديات الصحراء، من خلال روايات "فساد الأمكنة" لصبري موسى (1973)، و"رباعية الخسوف" (1989) و"نزيف الحجر" (1990) للكاتب الليبي إبراهيم الكوني؛ وثالثهم هنا العماني زهران القاسمي في "تغريبة القافز" (2022).
تليها بالتحليل سرديات الأرض مثّل لها بروايات: "زينب" (1013) لهيكل، و"دعاء الكروان" (1934) لطه حسين، و"الأرض" (1954) لعبد الرحمن الشرقاوي.
ومن المهمّ الوقوف على سرديات المرأة للطبيعة تعقبها وفحصها في روايات المصريات سلوى بكر، نوال السعداوي، ومنصورة عز الدين. وأخيراً سرديات الديستوبيا الإيكولوجية عند الفلسطيّنيين إبراهيم نصر الله في روايته "حرب الكلب الثانية"(2016) ذات الرؤية المتشائمة، مقابل "الإسكندرية 2050" لصبحي الفحماوي الاستشرافية المؤسّسة على رؤية يوتوبية للعالم.
إذا كان لا بدّ من ملاحظة بأنّ المتن المدروس بقي محدودًا، وكثير روايات من أقطار عربية أخرى كانت تستحق أن تُدرَج فيه وتُغني دراسته، أخصّ منها رواية المغربي محمد الأشعري: "من خشب وطين" (2021) تيمة البيئة فيها تيمة وفضاء وبناء؛ فإنّ تمثيلات الكتاب رسمت الهيكل العظمي ووجوه النقد البيئي وتجلّيات السّرد الإيكولوجي، نماذج و" شرائح" من الرواية العربية طالتها المقاربات، وهي بداية محمودة لبحث موثّقٍ نظريّاً وذكيٍّ ومنوّعٍ شرحًا وتحليلاً.
نلخّص ونقول في الختام بأنّ المؤلف تحرّك في المنطقة البينية بين النقد الإيكولوجي والسرديات ما بعد الكلاسيكية، واختبر حدود المنظورات الإيكولوجية للسّرد العربي ومدى حضورها.
لن يفوت هذه القراءة التنويه بالمعجم الخاص بالمصطلحات الإيكولوجية، وهي مفاتيح ضرورية للولوج لمغاليق ودروب عوالم تعالق النص الأدبي وترابطه بالبيئة وأجوائها وفضاءاتها وأبعادها. معجم مصطلحي لم يكتف بالترجمة بل اجتهد في الشرح والتأويل في مبحث ما زال بكراً في النقد العربي والدرس الأكاديمي، وهو ما يزيد من قيمة هذا البحث ويجعله محلّ تقدير.