يتعلّق الوعي الإنساني بفكرة المنقذ المخلص الـ Super Hero، وتتجلّى الفكرة درامياً بصيغ متنوعة؛ فتُعرض في قالب ديني أو فاتنازي أو هزلي. قد يكون البطل الخارق رجلًا أو امرأة، ابنًا منذورًا لمهمّة عظمى أو غريبًا ساقه قدر مجهول إلى بلدة ما.
إنّه القائد الملهم، الحكيم الماكر، القوي المنقذ، ربان السفينة، تاجر السعادة، ومالك كل المفاتيح وكل الحلول، حيث يتولّى قيادة جماعته ويقهر أي صعاب تواجهها، ليصبح مصيرها مغايرًا كليًا عمّا كان قبل ظهوره.
بطبيعة الحال، يمتلك الخارق الغامض قدرات سحرية، وتؤيّده السماء بالأعاجيب والمصادفات، ويلجأ إليه الناس كي ينصرهم ويثريهم ويصنع لهم تعاويذ الحماية.
وفي الأعمال الكوميدية يُعاد رسم هذا البطل هزليًا، فهو برغم كل مقوماته الخارقة أو التي يدّعيها، يسخر من الفكرة التي كانت سبباً في صعوده، ويبيع "الوهم" للناس مقابل الإثراء على حسابهم.
وهذا ما اختارته نيللي كريم لنفسها من خلال مسلسلها المعروض حالياً "فراولة"، فهي تلك الشابة الفقيرة التي ورثت مهارة قراءة الكف والفنجان عن أمها الراحلة، وعملت مطورة عقارية قبل أن تصبح بالصدفة مسؤولة عن شركة تبيع الأحجار الكريمة وأشياء جالبة للثراء والحظ الجيد والطاقة الإيجابية.
مهارة ومبالغة
تملك "فراولة" مهارة واضحة في مجال عملها، وإن كانت بيئتها وشخصية والدها، لا تبرران عملها المميز في شركة عقارات. شابة بارعة في الهروب من أي فخ أو مأزق. لكنّ الرهان ليس على مهاراتها وإنما على المبالغة في قدراتها، بما يجعلها فارقة عن المحيطين بها، وبارعة في "بيع الوهم" للناس.
بطولات بيع الوهم
سبق للسينما والتلفزيون تقديم هذا البطل الخارق بائع الوهم، في قالب هزلي، منها فيلم "واحدة بواحدة" إخراج نادر جلال وبطولة عادل إمام، عن شاب يعمل في مجال الإعلانات، يقوم بحملة ضخمة جداً عن سلعة وهمية اسمها "الفنكوش". وفيلم "علي بيه مظهر" 1985، بطولة محمد صبحي وكتابة لينين الرملي، عن شاب فقير يعتقد أنّ لديه قدرات خاصة لتحقيق الثراء، و"البيضة والحجر" 1990 بطولة أحمد زكي وكتابة محمود أبو زيد، عن مدرّس فلسفة يعجز عن إقامة حوار عقلاني مع المجتمع والعيش بكرامه، وعندما يتحول إلى مشعوذ دجّال ينجح في بيع الوهم للآخرين ويحقق الثراء.
هذه بعض الأمثلة الناجحة جدًا لنمط "البطل الخارق الهزلي" وقدرته على بيع الوهم أو "الفنكوش" للناس في ثلاثة مجالات مؤثرة، هي الدعاية والإعلان، ومجال الاقتصاد والمال، ومجال الإيمان بالسحر والغيبيات.
كان كل بطل منهم مرتبطاً بسياقه ولحظته التاريخية، وأعادت نيللي كريم استثمار هذا النمط، وأيضًا لم تبعد كثيرًا عمّا قدّمته قبل أربعة أعوام في "100 وش"، حيث جسّدت بطولة هزلية لشابة محتالة تخطط لسرقة الآخرين، وتقود مجموعة شخصيات جمعها القدر بها.
هنا تكرّر نيللي حبكة مشابهة، بتغييرات طفيفة، فبدل السرقة والنصب المالي تحول الأمر إلى احتيال غير مباشر بادّعاء طاقات سحرية لأحجار كريمة. وأيضًا تحلّقت حولها مجموعة شخصيات منهم: أحمد فهيم (حسن الشندويلي)، سامية (شيماء سيف).
تواضع الحبكة
على مستوى كتابة محمد سليمان عبد المالك، فهي لا تقارن بكتابة أحمد وائل وعمرو الدالي في "100 وش"، فالمجموعة المحيطة بالبطلة "فراولة" شديدة الافتعال والسطحية، واجتمعت معها بمصادفات واهية، ولا تقارن بعمق شخصيات "100 وش" وأزماتها وانصهارها في مشروع البطلة، وحتى الشخص المساند لها "أحمد فهيم" لا يقارن بحضور "آسر ياسين".
كما تمتعت حبكة "100 وش" بإطار بوليسي مشوق يكاد يحبس الأنفاس، بينما لا يوجد هنا إطار ولا صراع واضح المعالم.
فمن المفترض أنّ البطل المضاد أو القوة المعاندة للبطلة لا تقلّ عنها حضوراً، بينما في "فراولة" لا وجود لقوة مضادة، فهي تحقق كل ما تتمناه فورًا، ولو قالت شيئًا تافهًا تجني من ورائه آلاف الجنيهات، ولو تعرّضت لموقف سيئ يحلّ في المشهد التالي.
كان بإمكان المؤلف ألاّ يختار موضوعاً نخبوياً يتعلق بالأحجار الكريمة، ويحلّل شخصية "المستريح" كنموذج للنصب والاحتيال على آلاف المواطنين، أو يطور شخصية نيللي لاكتشاف عالم التنمية الذاتية الجديد نسبيًا على مجتمعاتنا.
ليست تلك الاقتراحات من قبيل الوصاية على المؤلف، لكن حبكته بدت تائهة ومفتقرة إلى الحيوية والصراعات المحفّزة، فعلى مدار الحلقات يتابع المتفرج قصة صعود سهلة جدًا للبطلة، فلا شيء يعوقها، وبقية الشخصيات مسطحة وتخدم عليها فقط. تنتقل "فراولة" من مطبات ومحطات سريعًا إلى مزيد من النجاح والانتشار بلا أي عائق، كأنّ المسلسل كله أشبه بجملة وصفية رتيبة عن رحلة "فراولة" من أجل الثراء.
كأنّها دراما أحادية من طرف واحد، ولا يكفي اعتراض جارها الطبيب النفسي "إبراهيم" (صدقي صخر) وإبلاغه للشرطة. فهو شخصية هشة ليس لها تأثير كبير على الأحداث.
الضحك وخفة الظل
إذا عدنا إلى الأفلام الثلاثة التي أشرنا إليها، نلاحظ أنّ أبطالها: محمد صبحي، وأحمد زكي، وعادل إمام.. كانوا قادرين على الإضحاك، والتأثير في المشاهدين. بينما في المسلسل لا شيء يُضحك، غابت الشعرة بين الظرف والاستظراف. فالأداء باهت و"الأفيهات" عتيقة تعود إلى مئة عام مضت. ولا وجه للمقارنة بين خفة وحيوية نيللي كريم في "100 وش"، وما تقدّمه الآن. ومعظم الشخصيات حولها مثل شيماء سيف مجرد أنماط تؤدي على الوتيرة ذاتها.
رؤية إخراجية
لو عقدنا مقارنة بين رؤية المخرجة كاملة أبو ذكري في "100 وش" ومحمد علي في "فراولة" لن تكون في مصلحة الأخير، لأنّ كاملة ـ مع المؤلفين ـ كانت بارعة في رسم وتسكين الشخصيات والحفاظ على إيقاع سريع متلاحق وحبكة مشوقة، وخفّة ظل.
هنا كان الأداء إجمالًا "مُطفأ" ليس فيه ما يثير الضحك ولا الخيال ولا الرغبة في المتابعة. كأنّ المخرج تورط في "الورق" أو ترك العنان لنيللي كريم تفعل ما تريد. فمثلًا "يانج" (عبد الحكيم الصيني) الذي أشرك "فراولة" في مشروع الطاقة الإيجابية، بدلًا من أن يصبح محورًا في الدراما تلتقي عنده المواقف والشخصيات والمفارقات، لم يستثمر، وسرعان ما اختفى بالصدفة مثلما ظهر بالصدفة بلا سبب واضح.
حتى فضح لعبة التسويق الهرمي أو شجرة التسويق التي تتوسع بمستفيدين مختلفين، لم تفضح العوالم المظلمة للتسويق وفق مقولة "شرّ البرية ما يُضحك" بل قدّمها المسلسل بطريقة باهتة.
ولم تقدّم نيللي كريم جديداً بشأن "البطل الخارق الهزلي بائع الوهم" مقارنة بما قدّمته هي نفسها قبل أعوام قليلة. لأنّ الحبكة جاءت أقرب إلى القص واللصق وافتعال مواقف لاستكمال الحلقات بأية طريقة، مثل الاستعانة بالكابتن رضا عبد العال بشخصيته الحقيقية. وإذا كان الهدف التسلية والإضحاك، فهذا أيضاً لم يتحقق.
من الواضح أنّ نيللي كريم لا تلمع ما لم يتوفر لها نص جيد وإدارة إخراج واعية. وما قدّمته ينطبق عليه المثل القائل"التاجر لما يفلس يفتش في دفاتره القديمة". فحتى "التتر" موسيقيًا وبصريًا ليس بعيدًا من "100 وش". كأنّها لا تبيع "الفنكوش" لضحاياها في المسلسل، بل تبيعه للجمهور أيضًا.