ما زالت "ألف ليلة وليلة" أحد مناهل الموروث الشعبي وأهم الكتب التراثية، إذ تمتلك خصوصية في بناء الثقافة والذهنية العربية، فهو نص ثري متعدّد الألسنة، فالكل يحكي سواءً الإنسان أو الطير أو الجن، والحواديت تتوالى كسلاسل، من دون أن يغفل الراوي خلق نقاط ترابط للعودة للحكاية الأصلية باستخدام تكنيك سردي متطور.
واقترنت حكاياتها في مخيلة الجمهور العربي بعوالم سحرية، يختلط فيها الواقع مع الأسطورة والتاريخ، وارتبط تقديمها بشهر رمضان، إذ كانت أحد طقوسه، بدايةً من الأجيال التي التفت حول أثير الإذاعة يستمعون إلى الفنانة زوزو نبيل بصوتها المميز "بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي الرشيد"، أشهر مقولة لشهرزاد تستهل بها الحكايات لشهريار، منذ خمسينات القرن الماضي، وتطورت الوسائط الإعلامية، وانتقلت إلى التلفاز، وتدريجياً غاب الإنتاج التلفزيوني لألف ليلة وليلة.
لكنه عاد هذا العام بإنتاج ضخم هو "جودر"، الذي حظي بنجاح كبير وإشادة النقاد والجمهور، ويدور في إطار الدراما الممزوجة بالخيال، حول جودر الذي يخوض صراعاً مع الشمعيين الساعين للوصول إلى كنوز الحكيم شمردل.
المسلسل بطولة ياسر جلال، ياسمين رئيس، نور اللبنانية، جيهان الشماشرجي، رشوان توفيق، عبد العزيز مخيون، وإنتاج "الشركة المتحدة" بالتعاون مع "ميدياهب وأروما ستوديوز"، وإخراج إسلام خيري، وتأليف أنور عبدالمغيث، صاحب الكثير من الأعمال التراثية و السيرة الشعبية مسرحياً.
وحول إحياء إنتاج تلك الحواديت، قال مؤلف العمل أنور عبدالمغيث لـ "النهار العربي": "أعتبر نفسي أحد مُلاك "ألف ليلة وليلة" على المستوى النصي، إذ امتلك مكتبة خاصة بها تضمّ كل طبعاتها التي ضختها أي مكتبة في العالم، وأؤمن بضرورة مصاحبة النص كي تمنحك ألف ليلة وليلة مفاتيحها، فهي ليست مجرد حواديت للتسلية؛ لكنها نص مُقاوم من الطراز الأول، يواجه مشكلات عصره، ويزخر بقضايا زمنه ويواجهها بأدواته.
البطل الشعبي وبطل الأكشن
ثمة خلط في الأعمال الدرامية بين "البطل الشعبي" و"بطل الأكشن"، فبعض الأعمال تقدّم نموذجاً مفتعلاً يخوض المشاجرات وينطق بكلمات مسجوعة وأخرى سوقية، على أنّه بطل شعبي، ومحاولة مداعبة الطباع الخشنة لدى رجل الشارع، والرهان على صناعة مسلسل جماهيري يطّعمونه بقصص إنسانية لجذب الجمهور، لأنّ البسطاء هم الأكثر مشاهدة، فقُدّمت نماذج غير سوية بوصفها أبطالاً للمجتمع، فتتأسى بهم الناس، ما يؤدي إلى تدني الذوق العام.
لكنّ مسلسل "جودر" يركز على "البطل الشعبي"، الذي تنعقد عليه آمال لحظته أو طبقته أو بلده، ويحمل قضية أبعد من المصلحة الشخصية الضيقة، وقال عبدالمغيث: "نطرح نموذج البطل الشعبي الذي يحمل على عاتقه مسؤولية القضية الشريفة، ولا تدفعه المصلحة الشخصية المباشرة، ونعمل على فكرة "المختار"،الذي أجمعت الظروف على اختياره كي يلعب دوراً مهماً؛ كي نردّ الاعتبار لقيمة البطولة، وأنا لست داعية أخلاق ولا انطلق من مفاهيم ضيقة، لكننا في النهاية مسؤولين أمام لحظتنا التاريخية".
تضمّ "ألف ليلة وليلة" سلاسل من حواديت متوالدة من "الحدوتة الأم"، فتتألف من مستويات عدة من الحكي ضمن الحدوتة الواحدة، فتقوم على "الحكاية الإطار" وهي شهرزاد وشهريار المأزوم بقضيته مع المرأة، وتعالجه شهرزاد عبر الثقافة والحكي والمعرفة المتراكمة والحواديت.
وتقدّم حكاية "جودر" عالمين، الأول هو الحكاية الإطار، والثاني هو الحدوتة المحكية جودر بن عمر المصري وأخواه، واستطاع عبدالمغيث صياغة سيناريو مكتمل وحدوتة شيّقة، وإضافة شخصيات وخطوط درامية مختلفة عن القصة الأصلية، ناسجًا عالمًا جديدًا.
وحول أسباب اختياره لحكاية جودر، كشف عبدالمغيث قائلا: "لكونها الأنسب للتعبير عن فكرة البطل الشعبي المُختار، فأخذت الحدوتة الأساسية لجودر وأخويه، وصنعت عوالم جديدة وبينها "الشمعيين" وشواهي وإخوتها، بجانب خلق عالم الحارة والحرافيش، فكل هذه الحكايات الفرعية لم تكن ضمن العمل".
تحويل التراث مهمّة شاقة للغاية، لكن عبدالمغيث اختار السير في دروبه، ويبرّر ذلك قائلاً: "لأنّه وجداننا الشعبي، والتراث يشكّل ذهنية وطريقة في رؤية العالم، فنحن نصيغ بضاعتنا وتكويننا النفسي والعقلي والذهني، وفق تصوراتنا لمنطق البطولة، ومعنى القضية الشريفة، لذلك من اللحظة الأولى ندرك قيمة البطل الشعبي ونراهن عليه".
رهانات وتحدّيات
واجه هذا العمل كثيراً من التحدّيات والرهانات، خصوصاً مقارنته بأعمال سابقة، تشكّل "نوستالجيا" في ذهنية أجيال سابقة ارتبطت بألف ليلة، ونجح "جودر" في تخطّيها عبر تقديم معالجة درامية جديدة للقصة التراثية. كاشفًا أنّ ثمة قطاعاً من الجمهور يتشوق لهذا اللون الدرامي. كما جذب كثيراً من الأجيال الشابة التي لا تعرف غالبيتها حكايات ألف ليلة وليلة.
وعلّق عبدالمغيث: "كل من قدّموا ألف ليلة وليلة أساتذتنا، لكن نمتلك ما نضيفه دون الإقلال من شأن أحد، فهم قدّموا ما رأوه ونحن نقدّم ما نراه، فلسنا عالة على من سبقنا من مبدعين، بل ندخل في حوار تفاعلي إبداعي مع تراثنا ومن سبقونا، وهناك كثير من المبدعين قدّموها، لكن لم ينتبه أحد لفكرة "البطل الشعبي".
ويعتبر عبد المغيث أنّ أحد أهم الرهانات هي القدرة على جذب الشباب الذين تربّوا في عصر "السوشيل ميديا"، وجعلهم يحبون تراثنا، ومدى قدرتنا على الوصول إلى معالجات درامية جديدة. مشدّدًا: "أؤمن أنّ تراثنا الشعبي يزخر بقيم راقية وقادر على خلق جمهوره إذا تمّ تقديمه بشكل جيد، وهو ما تحقق".
وأضاف: "لست وحدي الذي حققت هذا النجاح، أنا أحد جنود ولبنات هذا العمل، فهو إنتاج ضخم يضمّ مخرجاً جيداً للغاية وممثلاً مهمّاً واستثنائياً هو ياسر جلال، أحد الذين آمنوا بهذا المشروع، وهناك كثير من الفنيين، عملنا سوياً بتناغم وخضنا عبء التجربة التي لم تكن سهلة، واستغرقت وقتاً وجهداً شاقاً لتنفيذها".
الاقتباس
ظهرت الفنانة نور (شواهي) ضمن الأحداث تمتطي ظهر تنين، وهو مشهد يطابق مشاهد "أم التنانين" دينريس تارجاريان، الذي جسّدته الممثلة إيميلي كلارك في المسلسل الأيقوني "صراع العروش"، لكنّ مؤلف العمل اقتبس هذه المشاهد من أعمال أجنبية، قائلًا لـ"النهار العربي": "هذا تراثنا، وهم من ينقلون ويقتبسون من عوالمنا، فتراثنا يزخر بهذه النوعية من الحيوانات الأسطورية مثل التنين أو الحصان المجنح".
عوامل نجاح "جودر"
لا يحظى إنتاج أعمال الفانتازيا باهتمام في العالم العربي، لأنّها تتطلّب ميزانيات وإمكانيات ضخمة، وإن صنعت تكون ضعيفة وليست بالجودة المنتظرة، وجاء "جودر" بشكل مغاير وإنتاج سخي وجودة واضحة، ونجح في جذب أجيال مختلفة.
ولم يقدّم مجرد مشاهد بل لوحات فنية مفعمة بالإبداع، عبر تطويع استخدام التقنيات الحديثة بجودة لا تخطئها عين، فكل مشهد يجبرك على التركيز فيه، للاستمتاع بتفاصيله وجمالياته، بجانب حسن اختيار الديكورات ومواقع التصوير؛ فخرجت المشاهد تعكس أجواء القصة الخيالية، وتعدّ الموسيقى التصويرية للموسيقار شادي مؤنس، أحد العناصر المميزة ضمن العمل، فوضعتنا في الأجواء الأسطورية للعمل.
المسلسل إخراج إسلام خيري، ويمكن القول إنّه لم يكن مجرد مخرج، بل مايسترو يقود فرقة تعزف أجمل السيمفونيات العذبة؛ فخرج عملاً متكاملاً سواءً الديكور أو الملابس والتصوير والتمثيل واستخدام المؤثرات الصوتية والبصرية وفنون الغرافيكس، أدار خيري كافة عناصر العمل باحترافية واقتدار، واعتنى بأدق التفاصيل، بالنظر إلى صعوبة إخراج هذا النوع من المسلسلات، والذي اتضح حجم الجهد المبذول فيه، وجعلنا نعايش أجواء ألف ليلة وليلة.
ويُحسب للفنان ياسر جلال بحثه الدؤوب عن التجديد في أدواره، دون الارتكان للأدوار النمطية التي سبق أن حقق فيها نجاحاً جماهيرياً سواءً الاجتماعية أو الوطنية، وسعيه للتغيير والخروج من القوالب المكرّرة، إذ صرّح جلال أنّه خاض رحلة بحث عن المؤلف أنور عبد المغيث عندما علم أنّ لديه عملاً درامياً خاصاً بحواديت عالم "ألف ليلة وليلة"، وتحمّس لخوض هذه المغامرة".