كأن المخرج هاني خليفة يمسك بعدسة مكبرة ويحدّق في دوامة صغيرة من دوامات الحياة من خلال مسلسله "بدون سابق إنذار". والعنوان في حد ذاته يشير إلى تلك الانعطافة الدرامية التي تحدث لكل منا بلا تمهيد ولا مقدمات. لقاء عابر في دبي جمع بين "مروان" و"ليلى" كزوجين، وبعد سنوات يأتيهما اتصال عابر من المدرسة يكتشفان بسببه أن طفلهما "عمر" مصاب بالسرطان. وأيضاً نقاش حاد بين "حسن" و"نهى" ينقلب فجأة إلى طلاق.
حبكة تفاصيل
شارك في كتابة النص خمسة مؤلفين: عمار صبري، ألما كفارنة، سمر طاهر، كريم الدليل، عمرو الدالي. واعتمدت حبكته على مسارين: الأول: متابعة تطورات الحالة الصحية للطفل عمر، والآخر: البحث عن الابن الحقيقي الذي تم تبديله في المستشفى.
يعيش الزوجان مروان (آسر ياسين) وليلى (عائشة بن أحمد) في منزل أنيق ويعملان في مهن جيدة ولديهما طفل صغير عمر (سليم يوسف) يمرض فجأة ويتضح أنه مصاب بالسرطان ويحتاج إلى زرع نخاع.
تنتهي الحلقة الأولى ـ وهي الأفضل في إيقاعها وتقديم الشخصيات ـ بالشك في بنوة عمر. ثم تنشغل الحلقة الثانية بتأكد مروان أن عمر ليس ابنه والشك في خيانة زوجته له. بعدها تتوالى الحلقات بحثاً عن الابن الحقيقي.
ومثلما اعتمد خليفة في فيلمه الأول والأشهر "سهر الليالي" على تأمل الثنائيات وتعقيدات العلاقات بينها، وتدويرها أحياناً، انشغل السيناريو بأزمة الزوجين "مروان وليلي"، وأزمة ليلى في علاقتها مع أبويها (حنان سليمان وياسر علي ماهر)، وأزمة "حسن" شقيق مروان (أحمد خالد صالح) مع زوجته "نهى" (جهاد حسام)، وتقاربه مع "أمينة" (نورا شعيشع) صديقة "ليلى" زوجة أخيه، وظهور شخصيات من ماضي البطلين.
لكن لم تحدث تحولات ذات أهمية في الشخصيات، ولا في الأحداث التي ترواح مكانها، ففي كل حلقة تعبر "ليلى" عن عدم ارتياحها مع "مروان" وتطلب الطلاق، وتواصل "أمينة" الكلام نفسه مع "حسن" حول بيع بعض ممتلكاته لحل أزمته المالية، ويتكرر سوء الفهم بين "حسن" و"نهى" قبل طلاقهما وبعده. لذلك لو أسقط المتفرج حلقتين أو ثلاثاً فسوف يتابع المسلسل ولن يفوته الكثير.
وهكذا جاء الإيقاع رتيباً، والأسوأ من ذلك الانفصال نسبياً بين الحبكة الرئيسة المتعلقة بمرض "عمر" والبحث عن الابن الحقيقي من جهة، وتباعد وتقارب الثنائيات العاطفية من جهة أخرى. بمعنى أن تلك الصراعات الجانبية لا تتولد من الحبكة ولا تغذيها.
واستمرت الحلقات على وتيرتها الهادئة الفاترة وحواراتها المبنية على سوء الفهم والظنون، مع تمرير خطوة صغيرة جداً في كل حلقة من رحلة البحث، مثل الذهاب إلى ممرضة يتضح أنها لا تتذكر شيئاً، أو طرح القصة على صفحة في "السوشيل ميديا" أو ذهاب مروان إلى منزل ممرضة وتعرضه للضرب، أو تلقي اتصال من رجل يطلب منه مبلغاً مالياً، واتصال من رجل آخر يخبره بعنوان ممرضة أخرى. كلها تفاصيل جزئية متوقعة وفاترة، جعلت الحبكة راقدة أو لنقل إنها حبكة الولع بالتفاصيل الهامشية والتحديق في اللحظة الدرامية ذاتها.
لعبة تبديل الأطفال
يحسب للمسلسل الجهد المبذول لتسليط الضوء على الأطفال المصابين بالسرطان وكيفية تعامل الأسرة معهم، ويعد أداء الطفل سليم يوسف من حسنات المسلسل. مع تقوية هذا الخيط حين يكتشف الأبوان أنهما يرعيان طفلاً ليس ابنهما الحقيقي.
لكن مسألة تبديل الأطفال في حضانات الولادة، والتي تشغل بال ثلاثة أو أربعة مسلسلات مصرية هذا العام، منها "العتاولة" و"حق عرب"، لا تبدو مقنعة، في ظل التكنولوجيا وتوفر الكاميرات للمراقبة وأجهزة الكمبيوتر للتوثيق، كما لا تتناسب مع زوجين بذلك المستوى التعليمي والمهني. فليس من السهل اليوم تبديل طفل ولد عام 2016، وإقناع المشاهدين بأن ثمة "ورقة" منتزعة من دفتر المواليد!
حتى مع قبول هذا الاحتمال الضعيف جداً، ضيّع كُتاب المسلسل الاشتغال عليه، فمع حاجة "عمر" لزرع نخاع من أقاربه، يصبح من المنطقي جداً أن يسابق "مروان وليلى" الزمن للوصول إلى الأبوين الحقيقيين لابنهما من أجل أخذ عينة، قبل أن يفوت أوان العملية. وهذا لم يحدث.
فأيّ دراما تكتسب قوتها إما من تشبيك الخيوط كلها بالحبكة، وإما لوجود قوتين متضادتين، وهي هنا تتمثل في السباق مع الزمن للعثور على الأسرة الحقيقية، وهذا لم يحدث بشكل فعال ومؤثر. فبدت الحلقات كأنها تكرار لبعضها البعض مع إضافة تفاصيل قليلة، مرة يتضح أن شقيق "نهى" مدمن، وفي حلقة ثانية "يبيع مخدرات"، وفي حلقة ثالثة يتم القبض عليها، وكلها إضافات منطقية ومتوقعة.
أداء الممثلين
بسبب أن الحبكة تراوح مكانها، والمسلسل أقرب إلى جملة وصفية للشيء نفسه، احتفظ أداء معظم الشخصيات مثل "ليلى" و"حسن" بالحالة نفسها تقريباً دون تغير يذكر، ربما كان الأداء الأفضل من نصيب الطفل "سليم يوسف" وزوجة حسن الممثلة جهاد حسام لأنها عكست تاريخ وتناقضات شخصيتها، فهي من بيئة متواضعة اقتصادياً وحريصة مادياً ويحكمها سوء ظنّ في علاقتها مع زوجها، ونجحت في تلوين الشخصية والتعبير عن حالاتها المختلفة ولم تسقط في التسطيح والتنميط.
بالنسبة إلى الرؤية البصرية والإخراجية للمخرج هاني خليفة، كان هناك عناية كبيرة منه بالتكوين وجودة الحوار وخلق توتر درامي من تفاصيل بسيطة، والتركيز على تحليل مشاعر الشخصيات وانفعالاتها، والتوظيف الجيد لمعظم الممثلين وإن كان ثمة شيء جامد في أداء الممثلة التونسية عائشة بن أحمد وقدرتها على الإقناع بأنها "سيدة مصرية".
بريق جزئي
إجمالاً جاء العمل جيداً كتابة وتمثيلاً وإخراجاً، إلا أنه عانى من "البريق الجزئي" أي العناية بتفصيلة معينة، حتى لو لم تخدم الصورة الكلية للدراما. فمثلاً مشهد التقاء "ليلى" و"مروان" في دبي جاء جميلاً كاستهلال، لكنّ السؤال: لماذا دبي وليس التجمع الخامس مثلاً؟ بماذا يخدم ذلك الدراما كلها؟ وقيام صديقتها "أمينة" بعملية تجميد البويضات، فكرة براقة درامياً لكن يُشار إليها باقتضاب ولا توظف ولا تُستعاد تقريباً، والعم (فتوح أحمد) الطامع في أرض أولاد أخيه، يظل على الحالة ذاتها ولا يتدخل إلا في مشهد عابر بخصوص نسب "عمر" لأبيه، وهناك شخصيات كثيرة محيطة بالبطلين مثل أم الزوج (نهال عنبر) وأم الزوجة (حنان سليمان) لا تلتقي تقريباً ولا يؤدي حضورها ـ ولا غيابها ـ لأي تعقيد للحبكة، برغم أن مشاهدها العابرة براقة ولطيفة.
كأننا أمام مشروع لفيلم سينمائي ثم ارتأى صناعه تمطيطه وتمديده ليصبح خمس عشرة حلقة.