النهار

كتابٌ لزجّال أزهري مضت مئة عام على وفاته
علي عطا
المصدر: القاهرة- النهار العربي
يعد كتاب "التحفة الزَّكية في سياحتي مصر والأزبكية"، تأليف عاشور بن سليمان الأزهري، مصدراً مهماً، فيما يتعلق بالتأريخ للقاهرة أواخر القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين. ن
كتابٌ لزجّال أزهري مضت مئة عام على وفاته
الغلاف
A+   A-
يعد كتاب "التحفة الزَّكية في سياحتي مصر والأزبكية"، تأليف عاشور بن سليمان الأزهري، مصدراً مهماً، في ما يتعلق بالتأريخ للقاهرة أواخر القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين. نشره مؤلفه عام 1313 هـ / 1895م، وصدر أخيراً في طبعة مُحقَّقة ودراسة تحليلية بأدوات منهجية أكاديمية (دار العين) بتوقيع أستاذ التاريخ الوسيط والتراث الشعبي، عمرو عبد العزيز منير. يكشف الكتاب عن الجوانب الاجتماعية للأزبكية (أحد أقدم أحياء القاهرة) في تلك الحقبة.
وهو، كما يقول محققه، بمثابة إنتاج "شعبي" رصين يرصد كل ما ظهر على سطح المجتمع المصري من تناقضات، يمكن أن نعدها صراعاً بين الحداثة وتبعاتها المختلفة، والأصولية، ممثَّلة في الثقافة الأزهرية التي ينطلق منها أحمد عاشور الأزهري.
رؤيته لمصر التي كما يبدو مما كتبه، تستحق زماناً أفضل مما كانت عليه في عصره. وتنبع أهمية هذا المصدر - يضيف منير - من كونه عدسة رصدت الأزبكية "الناس والمكان"، بأبعاد مختلفة ليكون صورة حيّة وديناميكية صوَّرها أحد الأدباء الساخرين المعاصرين؛ بحثاً عن المجتمع الأمثل والزمان الخالي من اللامألوف واللاإنساني. متن الكتاب عبارة عن مجموعة أزجال ساخرة. والسخرية هنا رغم مبالغاتها تعيدنا إلى أرض الواقع وتكشف - كما جاء في دراسة وافية أنجزها منير تحليلاً لمحتوى الكتاب - عن "الحجرات الشعبية للتاريخ، التي تعطينا صوراً أكثر مصداقية عمّا حوَتْه الكتابات ذات الصبغة الرسمية، خصوصاً في مصر، إذ كانت السخرية في تاريخها الطويل سلاحاً بين أيدي العامة وبين أيدي الكتَّاب والشعراء والزجَّالين؛ لا للتعمية وقهر الناس، بل لتحريرهم من الخوف والخَور والذل والخضوع والنفاق".
وبالنسبة إلى السخرية السياسية والاجتماعية، فإنها تعد في الحالة المصرية التي يقدمها الكتاب هي نوع من جلْد الذات، بتعبير منير الذي يرى أن المصريين برعوا في هذا النوع من الفن الذي عبَّر بصدق عن أحوالهم وتاريخهم؛ ترميزاً مرة وتصريحاً، وخلقت وشائج قربى وصلة أقرب إلى صلة الرحم بين أدب المصريين وتاريخهم.
 
حديقة الأزبكية
 
 
زجّال أزهري
المؤلف أحمد عاشور بن سليمان الخضري الأزهري المصري، لم تسعف سيرته بمعرفة متى كان مولده، ولكن من خلال الصور الفوتوغرافية التي عثر عليها منير، يمكن حساب المتوسط العمري له، وهو ستون عاماً، وعلى ذلك يكون مولده غالباً في خمسينيات القرن الـ19. وهو زجّال مصري، تلقى العلم في الأزهر، على مشاهير علماء عصره، ولم يكن من عائلة أرستقراطية، فقد كان لقب جده "الخضري"، أي من طائفة الخضرية في القاهرة التي ولد فيها هذا الأزهري وفقاً لمؤرخي الأدب الشعبي في مصر في تلك الحقبة.
اشتغل بالصحافة الفكاهية، في جريدتي "الأرنب" و"الباباغلو". وكان من رواد ندوة الفكاهة التي كان ينظمها الزجَّال حسن الآلاتي ويشارك فيها أدباء القاهرة والظرفاء من أهلها، وسمَّاها "المضحكانة العليَّة". وكانوا خلالها يتسامرون ويتبارون في "القفْش والتندر".
من معاصريه المشهورين عبد الله النديم، والشيخ محمد النجَّار الذي كان يعد "أمير الزجَّالين" في عصره، وعِزت صقر، وإمام العبد، وخليل نظير، وحسين مظلوم ويونس القاضي. وكان عاشور يصادق كذلك عدداً من أبرز علماء الأزهر والتجار في زمنه، وكانت في شعره عموماً مسحة صوفية، فضلاً عن حسه الساخر خصوصاً في الزجل. وبعدما ترك الصحافة اشتغل بنظْم الأغاني الوطنية والشعبية والأزجال، وكتب مقطوعات كثيرة للمنشدين والمطربين في زمنه. وهو كان من أئمة هذا الفن ومن مشاهير رجال عصره، واشتهر بالنكتة البارعة والمجادلة. توفّي في 30 نوفمبر / تشرين الثاني 1924، ومن مؤلفاته: "سلطان الطرب والأغاني" (مجموعة أغان) و"الرحلة الحجازية" (زجل) و"القول المفيد في بدْع مصر الجديد" (نوادر وأزجال) "الاختراعات الهزلية في الحكايات والنوادر والأزجال الهلْسية"، "نُكَت الأزهرية في تفنيط الأجرومية" (مواويل بلدية في قالب نحْوي)، ترويج الخواطر في النُكَت والنوادر الفكاهية، و"رياضة البدن في نوادر الوطن". والكتاب عبارة عن أشعار زجلية تم تدوينها أواخر القرن التاسع عشر، عن مجتمع الأزبكية (أحد أشهر أحياء القاهرة في تلك الفترة) ويناقش ما طرأ على المنظومة الأخلاقية من تغيرات، اكتفى برصدها. 
 
 
حي الأزبكية
 
 
دراسة تحليلية
أما تحليل تلك الأشعار، باعتبارها تأريخاً غير رسمي، فتصدى له منير، في دراسته التي تضمنها هذا الكتاب الذي قام بتحقيقه، واتكأ في الإطار النظري له على محوريْن أساسيين: الأول فكرة الأصالة، والثاني عرض محتوى الكتاب. وفي المحور الأول رأى أن فكرة الأصالة بدت متأصلة في ذهنية أحمد عاشور، باحتفاظه بتاريخ الأزبكية، الحي الذي كان بمثابة القلب النابض للقاهرة في تلك الحقبة الزمنية. لذا كانت أبياته تتسم بالهجوم على كل ما يخالف تصوره المثالي لهذا الحي. وفي هذا السياق، وجد منير أن في تلك الفترة زادت التدخلات الأجنبية كثيراً، ما دعم فكرة الذود عن الأصالة التي تبناها أحمد عاشور، في ظل اتجاه الأزبكية، ذلك الحي الراقي، إلى فقدان تلك الصفة، خصوصاً في ظل الاحتلال الإنكليزي الذي بدأ في عهد توفيق، وتحديداً في عام 1882. وفي المحور الثاني عمل منير على تحليل مضمون الخطاب الأزهري، بصورة مبسطة، تسهم من ناحية في الإجابة عن الإشكالية التي طُرحت في المحور الأول، ومن ناحية أخرى، سيساعد ذلك القارئ غير المتخصص في استيعاب النص والإفادة منه، على حد قول منير. ورأى منير أن أحمد عاشور احتفظ بأصالة الحي العريق. ومن ثم فإن الزجل الذي كتبه يمثل صراعاً بين الأصالة، ممثلة في عاشور نفسه بثقافته الأزهرية. تلك الثقافة احتفظت بتاريخ الأزبكية المتأصل في الشخصية المصرية، في تلك الحقبة، فكانت صورتها – أدبياً – في مخيلته، ترجع إلى عام 1111 هـ، حينما ألَّف محمد أمين بن فضل الله بن محب الدين، المعروف بالمحبِّي، قصيدته عن الأزبكية في كتابه "نفح الرَّيْحانة ورشْحة طِلاء الحانة" والتي جاء فيها: "حبذا خضر الخمائل في رياض الأزبكية / وحقوق أردية النَّسيم سَرى ببُقعها الزَّكية". 
 
 
تطورات عمرانية واجتماعية
في حياة أحمد عاشور الممتدة منذ خمسينات القرن الـ19 وحتى عشرينات القرن العشرين، مرَّت الأزبكية بالعديد من التطورات العمرانية، التي تضمنت بين ثناياها تغيراً في المنظومة الاجتماعية لكل حقبة تاريخية على حدة. يعد هذا الكتاب نمطاً من أشكال التأليف العلمي في التراث العربي وتقاليده الراسخة، إذ هو زجل، أي شكل تقليدي من أشكال الشعر العربي باللغة المحكية لكل قوم. وبنية "التحفة الزكية" هي عبارة عن نص مقسَّم على قصائد متعددة: في الأخلاق والآداب والمواعظ والنوادر، وفيه من المشاهدات والمعاصَرة المباشرة للحوادث ومختلف المواقف، لذا فهو يعد نصاً موازياً لتاريخ يوميات مجتمعه في زمنه.
ويأتي نشر هذه الطبعة المحققة مواكباً لمرور مئة عام على وفاة مؤلفه، ومرور 126 عاماً على نشر طبعته الأولى.
وأنشأ حي الأزبكية أمير مملوكي يدعى أزبك بن ططخ الأتابكي، وكان حياً أرستقراطياً، يزخر بالمتنزهات، حتى العصر العثماني الذي بدأ في عام 1517م، عندما بدأ طابعه المحافظ يتلاشى تدريجياً، حتى إذا جاء عصر الانفتاح مع تولي الوالي سعيد الحكم، وبدأ تزايد الأجانب، الذي اكتملت حلقاته في عهد إسماعيل، تغيرت ملامح الحي. صحيح كان هناك اعتناء بحديقته الشهيرة التي أنشئت عام 1872م على يد المهندس الفرنسي باريل ديشان، على مساحة 18 فداناً أحيطت بسور، له أبواب من الجهات الأربع.
وأقام الخديوي إسماعيل في طرف الأزبكية الجنوبي مسرحين هما المسرح الكوميدي الفرنسي الذي أنشئ في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1867م وافتتح في 4 يناير 1868 تحت إدارة الخواجة منسي، ودار الأوبرا الخديوية، وبعد الانتهاء من تشجير الحديقة وتزيينها وإنارتها عيَّن الخديوي مسيو باريليه الفرنسي ناظراً لها ولجميع المتنزهات الأخرى، في الحي. ومع تغير مساحة حديقة الأزبكية من حقبة إلى أخرى، إلا أنها كانت هي المظلة "التي ترعى تلك العمليات الخارجة عن الأصول المجتمعية المتعارف عليها، بحسب عمرو منير. وهنا، يمكن القول إن أحمد عاشور جاءت أبياته في سبيل رسم "الصورة المثالية"، وهي صورة أشبه بالمدينة الفاضلة التي تمناها أفلاطون قبله بآلاف السنين. ففي زمن المؤلف أصبحت الأزبكية لها شهرة كبيرة في انتشار دور الدعارة بها، ومن هذا المنطلق يمكن القول: إن المجتمع الأزبكي كانت لديه مقومات بعينها، جغرافية وأخلاقية، قد شكلت ملامحه، فجعلت منه بؤرة حقيقية لتجتمع كل الموبقات فيه. هذه المقومات تزايدت معدلاته بتزايد وفود الأجانب على مصر. ومن هنا تفجر أحمد عاشور متعاملاً مع مجتمعه بنبرة التهكم والسخرية في أزجاله وأشعاره، مؤكداً وجوب التغيير والثورة ضد اللامألوف والانحراف؛ انتصاراً لرقعة خضراء، تصلح لابتسامة هادئة تنبئ بالرضا والسماحة، قمة الشعور الإنساني الذي تجسده تلك المجموعة الزجلية. 
                      

اقرأ في النهار Premium