أعترف بأني مرتبك جداً وغير مطمئنّ إلى قلمي، إذ أخط عبارات هذه المقالة، فالكلمات التي تحوي مضمونَها وترسم شكلَها ولونَها وخفقانَها قطراتُ دم بل شلالات وجبال من حطام رَدمت تحتها أجسامَ النساء والأطفال والعجزة وسواعد الرجال، دكتهم دكاً صواريخ العدوان الإسرائيلي وهي تمعن في قتل سكان غزة منذ بدء أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وتتواصل إذ أرقِن هذه الكلمات على صفحة حاسوب أراه مصطبغاً بدم الأجنّة وإطاره أشلاء.
بل إني لا أكاد أعي كيف أنظّم عبارتي، بل عبارات الآخرين، التي ستلقون في هذه الورقة، وعشرات الملايين من المسلمين يستقبلون عيد الفطر وهم مفجوعون بما جرى ويجري لإخوة لهم في فلسطين وهم لا يملكون لهم إلا الدعاء، ومن هم في التراب الفلسطيني المحتلّ. والآخرون الذين نجوا من الإبادة في غزّة أو في الطريق إلى الشهادة، مكتظون داخل الخيام، وتائهون. صدورهم مفتوحة للقصف يركضون يتلقفون كوم أرغفة تُرمى عوناً من السماء. من السخرية والبطر لو قلت إنهم سيتساءلون بلسان المتنبي: "عيدٌ بأيّة حال عدتَ يا عيد"؟!
وأعترف ثالثاً، بأني بعدما قرأت الكتابين اللذين وصلاني من رام الله في جزءين بعنوان: "كتابة خلف الخطوط ـ يوميات الحرب على غزة" (منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية، 2024) لم أجد ما يكفي من الدمع، ولا احتوتني نفسي من شدة الغَصص والألم، وكم خجلت. كنت زعمت أني كتبت متفجّعاً على ما حلّ بالفلسطينيين متضامناً مع أشقائنا الغزّاويين، لأتبين في هذا الإبّان أني ما سطّرت إلا مفردات وإنشاءً بلا روح، لأن الأرواح تُزهق هناك منذ سبعة أشهر على مرأى الدنيا، ثلاثون ألفاً ونيفاً استشهد وآلاف أُخر لا محالة سيموتون بالقتل أو المرض أو الجوع.
أفراد من هؤلاء، فيهم الروائية والكاتب والشاعر والصحافي والإنسان العام، كانوا يسرقون دقائقَ بين سقوطِ صاروخ وانهيار بناية، انتشال جثة وجنازة على مئة شهيد، في ضوء شمعة، على ورقة أو خِرقة أو شاشة هاتف؛ فيصفون ما يحدث ومعاناة الناس في كل شيء وأوجاعهم وأوضاعهم وهم يموتون أو الموت متربِّص مدسوس في الهواء.
هم من ضحايا آلة القتل الإسرائيلية الكاسحة ويموتون ببطء وأصرّوا على انتزاع بقية حياة بتقديم شهادة تبقى لأجيال الغد كي لا تنسى فتعلم أن: "أديمَ الأرض من هذه الأجساد" التي استشهدت أمس.
الروائي عاطف أبو سيف، وزير الثقافة الفلسطيني السابق، وهو غزّاوي، حيث ولد وترعرع وتعلم ودرّس في جامعتها، كان في غزّة التي يزورها نهاية كل أسبوع، عندما اندلعت الأحداث، فعاش العدوان تحت القصف طيلة شهور ودوّن ما رأى يوميات نشرها في الصحافة بانتظام، وصدرت في كتاب بعنوان "وقت مستقطع للنجاة" (الأهلية، عمّان، 2024).
إيماناً منه "بأن مهمة الكاتب أن يكتب وأن يحكي عن الآخرين، لأن وجوده معهم هو جوهر فكرة الحياة وفكر استمرارها. إن ممارسة الكتابة وقتَ الخطر هي جزء من القتال من أجل الحياة". عاطف أبو سيف نفسه، بعد شهاداته الحية، التي لقيت صدىً عالمياً فقد كانت يومياته تترجم مباشرةً إلى عديد لغات، وكذلك إثر صدروها كتاباً بالإنكليزية أولاً، تبنّى مبادرة وجمع ما دوّنه مجموعة من أبناء غزة من حملة القلم نساءً ورجالاً ، نصوصاً وخواطر وقصصاً تسجيلية ووصفية ورصداً لليومي مما عاناه الغزّاويّون من جرّاء العدوان بألوان وصفات لا تُحصى، كتبها نخبة والحصيلة كتاب ثمين يقول عنه الأديبان عاطف أبو سيف وعبد السلام العطاري المشرفان على تحريره بأنه: "ليس كتاباً عن غزة ولكنه كتاب عن الإنسان والمكان والحياة فيها خلال الحرب التي استهدفت وجودها ووجودنا كفلسطينيين فيها؛ الكتابة خلف الخطوط شهادة حيّة وشهادة صمود وبقاء".
ـ وين نروح يا الله، أتعبنا الموت؟!
يتضمن كتاب "كتابة خلف الخطوط" في جزءيه ثمانية وأربعين نصاً من 274 صفحة لكل جزء. سنأخذ منه قطوفاً للمثال إذ يتعذر الاختيار، لأنها كلّها بلا استثناء نصوص تشهد بقوة ووجع على ما عاشه أصحابها وعاينوه مع أهلهم وجيرانهم وفيهم من فَقَد الأبناء والآباء والزوجة. آلاء عيد في "من بيت ستي إلى الخيمة" تصف انهيار بيتها وجيرانها واضطرارهم 35 فرداً للنوم في صالة بأمتار وهم نجوا من الموت المحتوم في المستشفى المعمداني بجوارهم حيث استشهد أربمعمئة. تُصوّر تفرّقَ شمل العائلة. كلّ يبحث عن مأوى ونجاة ومعاناة لتوفير الطعام. وفي "الحرب تضيق الناس ذرعاً ويصبح العراك والنزاع خياراً في معظم الأحيان"، ثم ها هي "الطرقات والأرصفة تحولت إلى غابات من الخيام" لتصرخ في الأخير بيأس: "وين نروح يا الله! أتعبنا الموت!".
وتكتب إيمان ناطور (روائية) "من مذكرات ناجية من الحرب" بأن أصوات الصواريخ تنطلق حولها لا تتوقف، والجميع في البداية يعاندون أنهم لن يغادروا بيوتهم ثم تتهدم فوقهم أو على وشك يهربون. تنظر إلى كتبها ومؤلفاتها وتشتاق إليها ثم: "لقد ذهب كل شيء، وبقيت أنا فقط.. هكذا فحسب.. في قاع الأرض وحيدة بلا شيء!" لتخلص إلى محصلة مروِّعة: "ماذا يمكن أن تكون القيامة، إن لم تكن ما يحدث الآن!". أما الصحافي جيهان أبولا شين فيتحدث بنبرة واقعية جداً يرى بأن: "الحرب أكثر تعقيداً من كل الشروحات (...) تبتعد عن الخطر مرغماً تحمي صغارك من موت أكيد وأنت تعرف أن هذه ليست بطولة، تشعر كأنك خائن وتخون بلدك" ليصف قسوة ما يحدث: "ابنتي هبة، ذات التسعة أعوام، نزحت معنا سبع مرات كنا نهرب من خطر لخطر. نمشي مثل قطيع [غنم] كلّ يرفع بإحدى يديه هويته الشخصية، والجثث وأجزاء الجثث ملقاة على الطريق".
ـ طار جسد صديقي في الهواء!
لا تتذكر ديانا الشناوي (الروائية) إلا القليل: "لقد اغتالوا ذاكرة المكان، وتغيّرت الحياة فجأةً من الرّفاهية إلى البدائية" دليلها أنها تبحث عن ماء الشرب ولا وقود لا مخابز لا استحمام، وأعداد الموتى بالمئات أرقام بلا أسماء. يؤكد طلعت قديح (ناقد) الحالة نفسها بحرفية: "لا يهم أن يضيع نصف يومك لتفوز بنصف ربطة خبز مقابل نصف يوم إضافي من العيش، ذلك أن فوزك بنصف ربطة خبز عمل بطولي يستوجب منك المثول فجراً في الطابور".
مقابل هذا ما هو مأساوي يحدده الكاتب سعيد أبو غزة بقوله: "إنه لكابوس فظيع أن ترى شخصاً تحبه يموت أمام عينيك، يتحول إلى جثة محروقة مفتّتة، ولا تتمكن من طبْع قبلة على جبينه المهشّمة".
فيما الفكاهة المرّة أن يصبح ثمن بيع حمار ما لا يقل عن ألفي دولار وكذلك العربة. والهول ما يصفه الممثل والمخرج علي أبو ياسين في "نصوص الحرب" صورة أكبر من الكلمات: "طيران جسد صديقي ماجد في الهواء 100 متر لينتهي في شرفة شقة ممزّقاً بصاروخ قتله هو و120 شخصاً من عائلته".
الطريف عنده رصده تغيّر طباع البشر: "في غزة اختفت النميمة والحسد والانشغال بالآخرين التي كانت إحدى مُتع كثيرٍ من الناس".
هناك الأهمّ: "ستتعلم كيف تركب الحمار، كيف تحطب وتخبز". سيعود العدس ليتصدّر المشهدَ بصحبة الفول. ستحلم بالدجاج واللحم والسمك "طبعاً، إذا ظفرت بسرير ومخدة"! ثم فجائع أخرى فوق التحمل يصفها كمال صبح في نصّه: "جروح على خدّ الكريستال" وهو لم يعد يجد طريقاً يمشي فيه مدينته: "لم تعد تتسع للأحياء فقد امتلأت الساحات والأزقة بالقبور". وماذا يرى حين رأى؟: "رَجل تظهر ساقاه من تحت سقفه الإسمنتي السميك، أخفيناها بالرمل كي لا تنهشها الكلاب (...) وطفل لم يظهر من جسده الغضّ سوى ذراعه خرج من تحت الأنقاض ذراعُه مبتورة" ذلك أن غزة "مقبرة تلتهم الجميع مطحنة الآدميين".
ـ بكل اللغات لا يمكن وصفُها
لذلك تتساءل بيسان نتيل (شاعرة) "هل لغتنا كافية لتعرف ما يحدث الآن؟". مثلها يقر خالد شاهين (شاعر) بأن الحياة في رفح: "بكل لغات الأرض لا يمكن وصفها". ما لا يمنع سائد حامد أبو عطية، صحافي مدوِّن، من رصد وقائع مؤلمة هي جزء مما يعتري سلوك وأخلاق الناس في الحروب، فلا يكفي وصف الفجائع. هكذا يقول بصريح العبارة: "عمّت الفوضى في قطاع غزة وأصبح الناس يسيرون في كل الاتجاهات وأصبحنا فوضويين" ولا يتردد عن الإدانة: "هنا في قطاع غزة فئة مجرمة حقاً، وفوضى الطبع والاستغلال والهمجية الحقيقة بات جريمة".
يحكي قصة صاحب عربة كان من قبل يجمع المتلاشيات وفي زمن الحرب انقلب إلى جامع جثث بمقابل ويغالي في الثمن، انتهى محمولاً إلى المستشفى فوق عربته. الحرب ليست نزهة، فقَد الناس ذواتهم وتبدلت أخلاقهم. لا يتورع خالد شاهين عن الحديث عن الانحرافات، منها السرقة، وإن استدرك: "الناس لا تسرق، وحتى إذا سرقت فالجوع كافر".
يجد العذرَ والمبرّر من قلب ما عاش وعانى: "في زمن الحرب ليس هناك شيء ملكك، كلّ شيء عام وليس خاصاً، الأرض والحمّام والخيمة والطرقات، أنت وأسرتك أصبحت في العراء". هل يكفي قول هذا؟ هل الكتابة تجدي؟ يتساءل الشاعر محمد الزقزوق ضِمْناً ليجيب: "أكتب كي لا أتوجّس".
وكذلك الكاتبة نجوى شمعون، لا أفضل من عباراتها للختام، فلا مناص من الاختزال: "الكتابة في زمن الحرب متوهجة، صامتة ومنفعلة، كباقي الحواس مختلطة بكل المشاعر التي تتضارب وتظلّ كذلك حتى يتوقف العقل من التفكير في كل شيء إلا في هذه الحرب".