حظي مسلسل "أولاد بديعة" للمخرجة رشا هشام شربتجي (تأليف علي وجيه ويامن الحجلي) بمكانة مهمة في قائمة المشاهدة الرمضانية لهذا الموسم.
العمل أثار كماً كبيراً من التعليقات والجدل حوله، سواء من قبل نُقاد الدراما أو المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي، واعتبره بعضهم"مُسرفاً" بمشاهد العنف، والدموية التي تصل حد التوحش.
وبعضهم الآخر تحدث عن تقاطعه مع أعمال كثيرة مشحونة بالعنف والدموية مثل الفيلم البرازيلي "City of God" للمخرجين فرناندو ميراليس وكاتيا لوند، الذي يشرّح العنف في المجتمع البرازيلي ويدينه، لكنّ "أولاد بديعة" يكتفي بشق الاستعراض فقط بالنسبة إليهم. بينما يضعه آخرون، كـ"صحوة درامية سورية" جديدة، نجحت في مقاربتها للواقع، وكانت أمينة له.
يضع يامن الحجلي العمل في إطار "المشروع الدرامي الخاص" الذي يجمعه مع شريكه في الكتابة علي وجيه، فـ"أولاد بديعة" هو جزء من سلسلة أعمال منجزة سابقاً "عناية مشددة" 2015، "أحمر" 2016، "مال القبّان" في هذا الموسم من رمضان، في محاكاة الواقع السوري، والخراب الحالي الذي تعيشه البلاد في ما يسميه "دراما الصدمة".
أما التشابه بين "أولاد بديعة" وعمله "مال القبّان" بالشراكة مع علي وجيه، وإخراج: سيف الدين سبيعي، فهو يأتي في إطار المحاكاة الدرامية السابقة للواقع، عبر الولوج إلى عوالم مهن وحرف كانت بعيدة عن مشهد الدراما سابقاً، وتوجيه الضوء على عوالمها وصراعاتها بقالب خاص.
فانتازيا عُنفية
بالنسبة إلى حجلي، فإن العملين يعبران عن واقع اجتماعي عنيف يحتاج إلى الغوص في "قاعه"، وعرضه دون تجميل. قاع مجتمعي يعذّب أبناءه بالاستغلال الجسدي، والتنمر، وعبارات "أبناء الحرام"، والفقر والتهميش.
إنه مجتمع يخلق ضحاياه/ وحوشه باستمرار، يغذيهم بشهوة الانتقام والتطرف وحب الذات. لكنّ الواقع ليس سوداوياً إلى الحد الذي يجعل منه النص عنفاً منفراً، وعبثياً، بلا رؤى أو أمثولة درامية تعالج الخلل الاجتماعي السابق، وتفند سيرورة حياة شخوصها وتطرحها لمن يشاهده.
سرعان ما يستسلم لـ"موضة العنف" الدراجة - درامياً - بغرض ركوب "الترند". هكذا نصبح كمشاهدين كأننا نعدُّ أرقام ضحايا "المجزرة" المرتكبة في المسلسل دون حسيب أو رقيب، حتى أنك كمُشاهد لا تلمح حتى شرطي سير واحدا في المسلسل طوال حلقاته الأولى. وتدور أحداثه في بيئة مُغلقة على نفسها. تبدو "واقعية" بإطار فانتازي مُتخيل. أبطالها مجموعة من الأشرار الدمويين المتصارعين بلا هوادة، بدون شهود على جرائمهم.
يُقدم العمل مجتمعاً بلا أُسر طبيعية كالتي نعيش بينها، بلا وجوه طيبة، بلا قيم أو عواطف إنسانية كالحُب والصداقة. وبلاداً بلا دولة. فقد كان علينا انتظار الحلقة 13 حتى نشاهد ضابط شرطة "النقيب عساف" (علي صطوف)، يحاول أن يفكك سلسلة الإجرام الافتراضية.
تبدو الشخوص المريضة وكأنها خارجة من "مصح درامي"، وهو عكس ما كان سائداً في توجيه العنف أو تغطيته بقوة أعلى من خلال فاسدين نافذين يُديرون دفته، كما في "لعنة الطين"، و"كسر عضم". فالعنف في "أولاد بديعة"، عنف مجتمعي موجود بذاته ولذاته. تمت "فلترته" لأغراض لا تخفى على أحد.
"بديعة بنت حواء"
تنتمي القصة لفئة الإثارة والتشويق الدرامي الذي يعتمد على "الأكشن"، والتي بدت مميزة في الحلقات الأولى من خلال عرضها عبر زمنين "الفلاش باك"، ليجمع بين منطقة صناعة الدباغة في دمشق خلال ثمانينات القرن الماضي، وصراعاتها المختلفة.
كانت "بديعة" (إمارات زرق) بطلتها الأولى، المرأة الممسوسة بشيء من الجنون، والتي تعرضت للاستغلال الجنسي من قبل "عارف الدبّاغ/ فادي صبيح" الذي ينجح باستدراجها عبر لعبة "عريس وعروس"، لتنجب منه توأما من الذكور "شاهين" (سامر إسماعيل)، وياسين (يامن الحجلي).
المرأة الصامتة، الخجولة، التي أبدعت إمارات زرق في تجسيد صورة "البراءة الوحيدة في العمل"، من خلال لغة الجسد، باستخدام الإيماءات والإيحاء، سواء بتعابير الوجه أو النظرات. لتكون ضحية أولية لشرٍ سيمتد على طول حلقات العمل. ولتظهر لاحقاً كـ"صوت الضمير" الذي يُطارد "سكر" (سلافة معمار) في هلوساتها، الطفلة التي وجدتها بديعة في مكب نفايات، و"الراقصة الدموية" التي "لا يشغلها شيء". وتقرر أن تحتمل "إثمها وإثم إخوتها" عن طريق عقوبة سجن مُخففة. لكن لا شيء يبطل مفعول نزعة الشر الصادمة في العمل.
تمتد الحكاية لعام 2009، حيث صراع الإخوة - الأعداء في ما بينهم في سبيل التركة و"استعادة الأب". مع ظهور "مختار/ محمود نصر" الولد الشرعي الوحيد، والمُصاب بمرض عصابي ذهالي، تربى على الاستعلاء والنظرة الفوقية للآخرين. يحمل نزعة إجرامية منذ الطفولة "مشهد إعدام القطط/إخوته". وتعرض للإخصاء، ليتحول إلى قاتل متسلسل ثم "واعظ ديني".
"الهشاشة سيدة الموقف"
يجد العنف المُكرس كـ"ثيمة دائمة" للعمل، بيئته الحاضنة في مجتمع مخلفات الحرب السورية وأمرائها عبر شخوص "يمان/عدنان أبو الشامات،أبو الهول/ محمد حداقي، شوال/ عبد الهادي الصباغ". وليحمل في مضمونه شيئاً من صور الواقع السوري المعيش، ومظاهر الفوضى والفساد وغياب القيم الأخلاقية. لكنه لا يخلو من التطيّر، و"الأوفر أكتينغ"، من خلال مشاهد العصابات والسلاح المعلن، وتجارة العملة المزورة والبنزين المهرب، وغسيل الأموال، والإتجار بمنازل النازحين قسراً، وجو المراقص الليلية، وعُلب الليل وقواديها.
الأمر الذي يجعله ينحو باتجاه الاستعراض الفج، كـ"مُنقذ" للنص المتهالك الذي يريد كُتابه المحافظة على صيرورة العنف الواقعي - المفترض بغرض "استثارة المُشاهد"، أكثر من كونه ناقداً صارماً للواقع ذاته. فلا يبرز واقع العمل إلا كـ"حلبة صراع حتى الموت" عن طريق المقامرة بين مجموعة من "الديكة".
لتغيب عنه - أي النص - الشخوص الإيجابية، والمقاومة للواقع المريض، باستثناء استدعاء "المؤسسة الدينية" ممثلةً بـ"مقام الأربعين"، كرمزية لجوهر الصراع في "تكرار مُمل" لأسطورة القتل الأولى "هابيل وقابيل". ويصبح مقصداً جماعياً لأبطال المسلسل بغرض التطهر من "ذنوبهم وجرائمهم". دون أن ينجح النص المفكك أصلاً في معالجة هذا التخبط الدرامي والعشوائية بعيداً عن أي سياق نفسي يتواءم مع منطق الشخصيات. إضافةً لغياب عامل ضبط الزمن - تحديداً - في مشهد المطاردة والمعركة بين مختار وشقيقه الذي يستمرّ لوقت طويل جداً وينتهي برغبة المصالحة، ما يتناقض مع منطق الشخصيتين المتعاديتين. كل ذلك، بقصد حبس الأنفاس واللعب بأدرينالين المُشاهد عن طريق القطع الدرامي، والحلول السهلة، وخلق المفاجأة باستمرار عبر تطعيمها بالعنف الذي يبدو مقحماً ومباشراً في كثير من الأحيان.
"لزوم ما لا يلزم"
تستخدم الحبكة المُهلهلة، عامل الدين كعنصر تزييني لا أكثر. وتجعل من موت/انتقال "أبو الوفا/ تيسير إدريس"، مُعجزةً، هي في الحقيقة جريمة قتلٍ أخرى، كتعبير عن سذاجة إيمانية محضة. والترويج للعلمانية كـ"إلحاد" من خلال الصراع الفكري بين "أبو رياض/فراس إبراهيم" و"عزّت السكير" (وضاح حلوم) الذي يعتبر إيمان جاره في الحي شكلاً من أشكال "الدروشة".
لا أحد منهم يتوب في نهاية المطاف. باستثناء "مروى/لين غرّة" التي تعاني نوبات الندم المستمرة، والإكراه على عملها كبنت ليل، لتقرر ترك كل شيء والإقامة في جامع الأربعين.
النص أيضاً، يحاول أن يجد في المتكأت اللفظية كحوامل - شبه يتيمة - لشخوصه كـ"ساعة من ساعاتو، يا برنس (مع الصفيّر)، شر مالك يفتح الله عليك، ما بيشغلني، وسواها" لتخفف من خلال "الطرافة" دموية الأحداث.
وهو أسلوب مكرر دأب عليه "وجيه والحجلي" في أعمال سابقة. لتتحول تلك المتلازمات الكلامية جزءاً من مقاطع الـ"ريلز"، و"لعبة الميديا" المنتشرة بكثرة خلال العرض بغرض التسويق للعمل.
بينما يستسلم معظم أبطال العمل لأدوات "التجسيد التمثيلي الخارجي" لأدوارهم، فيغلب عليهم المبالغة الحركية في الأداء، والصراخ والعويل وهز الكتفين كما لدى سلافة معمار. أو حركة الحاجب الأيمن أو الصوت المترافق مع حركة اليد عند الأذن اليمنى لدى محمود نصر. بينما يستمر يامن الحجلي في تقمص شخصية "يزن" وأدواتها التمثيلية نفسها من النبرة الكلامية، وحركات الجسد المفتعلة في عمله الأول "أيام الدراسة"، والتي رافقته في شخصية "النقيب عاصي" في مسلسل "أحمر". ويبقى سامر إسماعيل أكثرهم اتزاناً ومقدرة على أداء دوره دون الإسراف دون استخدام تلك المؤثرات الحركية أو اللازمات الكلامية الزائدة.