في الجزء الأَول من هذا المقال ذكرتُ كيف التقاليد المتوارثة عبر الأَجيال جعلَت نفرتيتي إِحدى أَجمل النساء في التاريخ، ومن أَكثرهنَّ سُلطةً وتأْثيرًا على الأَقربين منها والأَبعدين. وكثيرًا ما هي مُلهمةُ الشعراء والمسرحيين والرسامين والمؤَلفين الموسيقيين.
في هذا الجزء الثاني أُكمل كيف كانت ساحرة على ألغاز في مسيرتها.
نفرتيتي موحية أَخناتِن
ساندَت نفرتيتي ما جاء به زوجها من كسر التقاليد، ودعمت تلك الطقوس الجديدة التي أَنشأَها، وكانت رئيسة كاهناته وموحيَتَه الإِيديولوجية الوحيدة. من هنا أَخذ الفنانون يسعون إِلى وضع رسم نافر له، فراحوا يحفرون خطوطًا "في" الوجه عوض أَن يقتطعوا الحجر "حول" الوجه. ومن تلك الأَعمال: حفْر نافر يَظهر فيه أَخناتِن وزوجته وثلاث من بناته الست في شعاعات آتِن قرص الشمس، ينتهي في الأَيدي الحاملة آنخ: علامة الحياة. كما يَظهر أَخناتِن يحمل إِحدى بناته إِلى فمه ويقبّلها، فيما ابنة أُخرى تجلس في حضن نفرتيتي وتَنْهد متجهةً صوب والدها، والابنة الصُغرى تمد يدها إِلى تاج والدتها نفرتيتي. وخلف الجميع خطوط الشمس تظلِّل المشهد كله.
هذا الفن الواقعي ذو الحركة والتعبير لم يكن سائدًا في مصر، لكنه يصوِّر الطقوس الجديدة التي أَنشأَها أَخناتِن عهدئذٍ. قبلذاك كان التعبير جمادًا في الوجه أَو في الجسد. ومع أَخناتِن بات التصوير يشمل الأُسرة كلَّها لا هو وحده. من هنا انتشار هذا النوع من التعبير الجَماعي عوض شخصه المفرد.
رأْس نفرتيتي في تلاوين مختلفة
نفرتيتي والتفكير الاستراتيجي
كان أَخناتِن وزوجته نفرتيتي يدركان أَن الوضع الطقوسي تغيَّر. أَرادا أَن يُظهرا القوة الفائقة في استمرار سلالتهما، فأظهرا بناتهما. ومع أَن اسم نفرتيتي غاب عن الذكْر في تدوينات التاريخ، إِلَّا أَنها حكَمت مصر عند وفاة زوجها. ويقال إِنها تزيَّت بلباس رجُل كي لا يعترض المناهضون، وجعلت ابنتها الكبرى ماريتاتِن بمثابة الزوجة.
أَول أَمر صدر عنها: مغادرة مدينة أَخناتِن، فباتت مدينة طيبا هي المركز الإِداري. وقد يكون ذلك تدبيرًا يوائم الطقس الجديد من العبادة. أَما أَتباع أَخناتِن الأَصلي فظلُّوا على التقليد الديني الأَول في طيبة باتباع آتِن في الكرنك، معيدين بناء الهياكل وما فيها من نقوش وكتابات.
بعدذاك كان عصر توت عنخ آمون، فراح أَتباعه ينبذون الطقوس الإِلهية السابقة التي أَنشأَها أخناتِن، لكن الحكَّام اللاحقين ظلُّوا على ربط توت عنخ أَمون بطقوس أَخناتِن.
هنا يبدو أن نفرتيتي كانت ذات رؤْية ثاقبة في علاقاتها مع سائر الملوك. فهي راسلت ملك الحثيين سوبيلوليوما الأول (حَكَم من 1344 إلى 1322 ق.م.) وطلبَت منه أَن يزوج أَحد أَبنائه من سلالتها، وذاك كان غريبًا لأَن العادة لم تكن أَن يتزوج ملكٌ من سلالة أُخرى. لم يرضَ الملك الحثّيّ فخسر فرصة أَن ينضم إلى قوة مصر العالية الازدهار عهدئذٍ.
ما وُجد لاحقًا من كتابات ومحفورات ورسوم جدرانية وأَوانٍ خزفية وأَضرحة في العمارنة يدل على مسيرة نفرتيتي الغنية بالأَحداث. لكن ذكْرها تضاءل كثيرًا بعد وفاة زوجها، من هنا لم يعد من تفاصيل عنها بعد تلك الفترة: قد تكون غادرت العمارنة إِراديًّا، أَو انها قُتلَت أَو انها اختفت فترة ثم عادت إِلى الظهور.
التشبُّه العصري بتاج نفرتيتي
نفرتيتي محظية تحوتمس
وغارت نفرتيتي في النسيان. سنة 1912، فيما بعثة أَثرية برئاسة العالِم الأَلماني لودفيك بورشارد (1863-1938) الخبير بالتاريخ المصري القديم، كانت تُنقّب في مدينة العمارنة القديمة، وجدت تمثال تحوتمس مشوَّهًا. حمل العالِم إِلى محترفه في أَلمانيا تمثال نفرتيتي النصفي، وكانت أَلوانه ما زالت محفوظة كما منذ كان. ووضع جميع الموجودات في متحف برلين الجديد. وما زالت نفرتيتي ساحرة الجمال كما تبدو في تمثالها النصفي. وعنه أَخذ نحاتون لاحقون نسخًا في أَعمالهم.
نفرتيتي أَيقونة الجمال
في النظر إِلى تمثال نفرتيتي النصفي، تبدو العين اليُسرى مُشوَّهة. لكن سائر ملامح الوجه توحي ببقية ذاك الجمال. ويبدو أَن النحات الذي صنعه عصرئذٍ هندس المقاييس في رأْسها وعنقها كي يوحي بما في ذاك الرأْس من معالم الأُلوهة. وبقي هذا التمثال هو الأَشهر في الإِيحاء بجمال نفرتيتي وسحرها الخاص وحتى هيبتها. من هنا وجد الباحثون الخبراء ملامح السطوة الذكورية في أَنفها المروَّس وصلابة ذقنها، ما لا يحجب جمالها إِنما يوحي بهيبة واثقة. وهذا يدل على عبقرية النحات الذي وضع هذا التمثال النصفي قبل مئات من السنوات، وما زال هو ذاته موضع وحي لنحاتين معاصرين. فسنة 1993، قام النحات الأَميركي فْرِد ولسون بصنع خمس نُسخ من التمثال الأَصلي الموجود في متحف برلين الجديد، وصبغ تلك النسخ بأَلوان تتراوح بين الرمادي الفاتح والبني الغامق، ما أَعطى انطباعًا واضحًا عن صلابة الملامح في التمثال الأَصلي.
كان النحاتون المصريون القدامى ينحتون الرجال ببشَرةٍ بنّيّة، والنساء ببشرة بيضاء، تاركين انطباعًا واضحًا عن تمييزهم بين الرجال والنساء. وكان ذاك اصطلاحًا وليس قاعدة نحتية.
البشَرة صورة الجمال
ما يقود الظن أَن نفرتيتي كانت امرأَة جميلة، وفق تمثالها النصفي في متحف برلين، مقاييسُ عنقها وتعابيرُ وجهها، ما يدلُّ على أَنها كانت سيدة ملَكية. ولا يعطي التمثال فكرةً عن شَعرها، إِن كانت حليقة أَو انها خبَّأَتْه تحت تاجها. لكن ذلك لا يلغي مقاييس تجعل منها امرأَة جميلة عبر العصور، وما زالت النساء حتى اليوم يستلهمْن جمالها في الماكياج أَو الملابس، خاصة تَمَثُّلًا بما كان لها من حضور آسر كملكة حاكمة ذات هيبة وسطوة.
وهذا ما يجعلها فاتنة الوجه والسيرة والمسيرة في كل عصر وزمان، وفي كل مكان من العالَم.