النهار

هدى حَمَد ترفع الرّواية العُمانيّة إلى مقام الأسطورة
أحمد المديني
المصدر: النهار العربي
​ أخصّص مقالتي هذه لقراءة وإعادة استكشاف رواسة الأديبة العُمانية هدى حمد "لا يُذكرون في مجاز" من بين روايات للكاتبة نفسها مثل "التي تعد السلالم"(2014)؛" أسامينا" (2016)؛" سندريلات مسقط"(2016) عن دار الآداب. جزء مما صدر لكتاب من الخليج العربي،عامة، وسلطنة عُمان، خاصة. هي ظاهرة لافتة كمّا ونوعا، تعني تزحزح مركزيات الأدبية كانت محصورة في عواصم محدودة بالمشرق العربي، وانتقالها إلى أقطار أخرى المذكورة وبلدان المغرب العربي.
هدى حَمَد ترفع الرّواية العُمانيّة إلى مقام الأسطورة
هدى حمد
A+   A-

أخصّص مقالتي هذه لقراءة وإعادة استكشاف رواية الأديبة العُمانية هدى حمد "لا يُذكرون في مجاز" من بين روايات للكاتبة نفسها مثل "التي تعد السلالم" (2014)؛ "أسامينا" (2016)؛ "سندريلات مسقط" (2016) عن دار الآداب. جزء مما صدر لكتّاب من الخليج العربي، عامة، وسلطنة عُمان، خاصة.

هي ظاهرة لافتة كماً ونوعاً، تعني تزحزح مركزيات الأدبية كانت محصورة في عواصم محدودة بالمشرق العربي، وانتقالها إلى أقطار أخرى المذكورة وبلدان المغرب العربي.

لا ضير في هذا يوسع دائرة ثقافتنا العربية وآدابها ويغنيها. وتفيدنا كذلك بتطور مهم في استعداد هذه البيئات ثقافة وموهبةً وأذواقاً لاستخدام تعبيرات مختلفة تجدها أكثر ملاءمة للزمن الحديث، ولتحولاتِ وبنيات مجتمعها ومعيش ومعضلات إنسانها. أعني الرواية، فالشعر ديوان العرب، وأياً ما يلحقه من تغيُّر في الشكل والموسيقى هو تجديد له وإضافة، ولن تحدث القطيعة في نظامه، إلا بانقلاب جذري للذائقة ما لم يحدث بعد. بخلاف الرواية جنس أدبي حديث يُبذر حبّها لتنبت في تربة بكر. نعم، طبقاتها الجيولوجية مشبعة بالأخبار والحكايات، فولكلور ونتاج الشعوب في كل مكان، لكنّ البناء (الفني) والعالم المرصود (المجتمع الحديث) والشخصيات الفاعلة (أبناء الحواضر، غالباً) ورؤية العالم المستثمرة (الثقافة والأيديولوجيا وصراع الحياة)؛ هذا كله طارئ وغير مؤسس، احتاج إلى زمن وغرس بنيات مختلفة وإبدالات في الخيال.

 
 
 

أعتبر العنصر الأخير العمادَ الرئيس لكتابة الرواية بشكل تأصيلي ونسَقي فناً ومادةً ووجوداً. والرواية العربية التي اتفقنا على بدايتها مع "زينب" لهيكل (1913) طال تعثُّرها وتذبذُبُها بين استنساخ الواقع حرفاً ومحاولة اختراقه بتصويره من بؤرة أزمات أفراده وبعدها أحلامِهم وخيباتِهم، ثم فهمِ معنى التخييل بوصفه إبدالاً مصنوعاً للواقع لا هو ذاته، هنا تبدأ الرواية حقاً. اللافت أن كُتّاب الجزيرة والخليج العربي شرعوا في مدوّنة الرواية وهي في فترة تحوّل شكلي ورؤيوي، وبحكم التغيّر السريع الذي عرفته بلدانهم على مستويات مختلفة، استوعبوا موروثها وحذِقوا قواعدها، ووجدوا أنفسهم بين مفترق طرق في تصوّرها تمثيلاً آخر لبيئتهم وذواتهم، بالكيفية الواقعية أولاً التي درجت عليها الرواية العربية منذ تأسيسها وإلى ترسيخها على يد نجيب محفوظ ومن في ظله؛

وفي البحث ثانياً عن تصور وأسلوب مغايرين لهذا التمثيل حفزهم عليه أن الروائية الواقعية العربية دخلت في مرحلة إنهاك حيث نشأت وتبلورت، ولم تتبلور كذلك الشروط الموضوعية (= المدينية) الكافية أو بشكل سطحي فقط، لتوجد عندهم.

 لذا اهتدوا أخيراً لما فتحوا عليه أعينهم وترعرعوا في أكنافه. بعد الحدْس والحُلم، قرروا أن يحوّلوا السراب حقيقة، ويُنزلوا الحكاية من السماء إلى البسيطة، ويُسمّوا المحجوب وما لا يُسمّى، ويُكلموا الكائنات الخفية لتمشي معهم في واضحة النهار. هكذا يبطُل فعل السِّحر حين يُبتذل في نثر اليومي، وهذا تعرف الرواية الرواية، وتتخلق هذه بروح الأخيرة كي تتعلم فن الطيران وتحلّق بعدما كانت تمشي على قدمين، فقط. هذا ما نهجت عليه رواية أميركا الجنوبية لا غير.

تقدم لنا الرواية العُمانية نماذج لا بأس بها لصنع هذا التصور وتمثيله، على قدر من البساطة والفطرة أدهشت ونالت الحُظوة، فيما هي كالهواء يتنفسّه الناس، والماء يجري أمامَهم، رآه زهران القاسمي فسبح فيه، ففاز بـ"تغريبة القافز" (2022).

وضاق قماشُ العيش الحضري في مسقط على عقل ومخيلة هدى حمد فمزقته شخصية روايتها: "لا يُذكرون في مجاز" في  وضعية كاتبة أصابتها "حبسة الكتابة" فاختلّ نظام عيشها وحياتها الزوجية، ذروةُ اضطرابها تعرُّضُها لهلوساتٍ تجنح بها ـ بالقصة ـ من الوضع الطبيعي إلى الفضاء الغرائبي، هو الذي ستُنسج بخيوطه الرواية وتعمل أحداثُها وتُحكى خوارقُها، بلسان شخصياتٍ، سنتبين في الأخير أن من ظننّاها شخصيةً رئيساً ليست إلا وسيطاً لعبور جداول السّرد في نهر الحكايات الدافق.

 
 

الشخصية التي لا اسم لها (سنسمّيها الحفيدة) ربّةُ بيتٍ تركت الوظيفة وتفرّغت للكتابة، يصفها زوجُها هكذا: "تتحدث عن الكتابة والأفلام، وليس لديها حياة واقعية" (16). عبارةٌ مناسبة تنقلنا بتؤدة مع إشارات أخرى من قبيل إحساسها بالضجر وتصرفات آلية في البيت، وعلاقة زوجية فاترة مع زوج منسجم في عمله الصحافي، وحريص على نوم منتظم؛ تنقلنا إلى الفعل الأول الذي يكسر إيقاع الجمود في حياة رتيبة ويدفع بالحفيدة إلى التغيير.

يبدأ باكتشافها أن الرّمّة (الأرضة) أكلت خمسة دواليب من الكتب والأوراق. ثم تهيؤات بأن الرّمّة تحوم حولها بأجنحتها، وستحلم تكراراً بها تأكل داخل رأسها المشقوق بما يسبب لها صداعاً شديداً ويفصم علاقتها بواقعها يهيمن عليه ما يتهيّأ لها حقيقة. بفعل الصدفة، تعثر وسط خزانة كتبها على طرد توصلت به منذ وقت طويل. تفتحه فإذا يحوي كتاباً ضخماً من تسعة فصول عن السحر والنجوم والعجائب والثيران.. المرسلُ جدة لها تقيم بعيداً من مسقط فتحزم أمرها للسفر إليها كي تلبي نداءَ حلمها وتساعدها على قراءة كتاب استعصى عليها.

 
 

هنا البداية الفعلية لقصة الرواية. السفر إلى بلدة (مجاز) حيث تقيم الجدة، وحين تكون الحفيدة على وشك الوصول تتعرض لحادث سير، يضعنا وإيّاها في منزلة بين منزلتي الواقع والخيال، متأرجحة بين فعل الحادث حقيقةً ها هي في مستشفى فاقدةَ الوعي تحت أنظار زوجها وعائلتها، وأغلب الأوقات في السفر الحكائي الطويل والمتشعّب عند الجدّة بغية قراءة الكتاب الغامض. لمجاز معان. هي اسم مكان. والمجاز لغةً هو الممر وهو التجاوز والتعدّي. واصطلاحاً بلاغياً "هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى مرجوح بقرينة" وهو أقسام ومتى أطلق المجاز انصرف إلى "المجاز اللغوي". لذلك عنوان الرواية علامة سيميائية وأيقونة تحتوي بوصفها دالاً إلى موضوع الرواية ومحكيِّها ودلالتها، ولم يكن منه بُدٌّ لتسمية عالم رمزي ووسْمِ قصة أليغورية. هي حقاً مغرقةٌ في الترميز والإحالات الخلفية بما أنها تمتح من معين موروث أسطوري تليد، وطني متوارث ما في ذلك شك، تعجنه اليدُ الساردة لتقدمه روائياً، وهذا رهان.

 

 

حكايات متناسلة

في مئتين وصفحات أخرى تروي الكاتبة، الحفيدةُ بوصفها الساردة، التي تتعدد على لسانها ضمائر المتكلم، عشرات الحكايات، واحدة ضمن الثانية فالثالثة على طريقة دمية الماتريوشكا الروسية، تُسلم حكاية إلى أخرى ثم ترتدّ إلى سابقة وتفضي إلى لاحقة تذكّر وتُكمل تطور خبراً حدثاً، وهي جميعها متشابكة ومتعانقة متعالقة تصنع بنية العالم الغرائبي لمجاز مكاناً ورؤية. في طبقة الجدة من قصدت الحفيدة على صعيد الخيال فتعالجها وقتاً من كسور الحادثة، وتخبرها "جدتك بثنة الثائبة من مئات السنين تركت هذا الكتاب لحفيدة مختارة، وها قد ظهرت عليك العلامات" (37) و"لا تظهر إلا قارئة واحدة كل مائة عام" (38) والعلامة هي الرّمّة التي تسللت إلى رأسها تحمل الشفرة التي تستطيع بها قراءة (اللغة البائدة) المكتوب بها الكتاب. من ثم ستقود الجدة الأخيرة حفيدتها إلى شخص واحد بيده مجمع الحكايات ووحده قادر على روايتها من الكتاب الذي دونته سراً الجدة البعيدة بثنة الثائبة وظل يمرُّ من يدٍ إلى يد إلى أن وصل إلى الحفيدة يحقّ لها قراءته، وتريد: "أن يرويَ أحدُهم قصتها، إن في ذلك حياة جديدة لها"(41).

يا لها من قصة مدهشة عاشتها الجدة بثنة بنت ملك تركت القصر بسبعة من الخيل هرباً من ساحر البلاط مسخ حبيبها الشاعر فرساً وصادفت في الطريق فُرساناً عرضة لقطاع طرق ولدربتها على السلاح وقوة بدنية حررتهم ورافقتهم إلى بلدتهم (مجاز).

هنا ستكتشف ناساً مختلفين أغلبهم بؤساء ومطيعون كالعبيد نظروا إليها غريبة بهيئتها وستعرف أنهم محكومون بسيدّ كبير يسكن بـ(الحصن). مجاز قسمان: داخل الحصن حيث السيد وحاشيته على رأسها الباطش ألماس، وخارجه حيث يعيش الآخرون (الشعب) بالاسم الحديث.

 

تتعرف الجدة بثينة على طقوس الحصن وممارساته التي يقودها ألماس، أهمها أنه يرصد ظهور ما يسمّى (علامة) على واحد من السكان فيحاكم ليعترف بإثمه، إذ العلامة هي إخفاء أمر أو سلوك ما وهو مظهر الاختلاف والشذوذ عن الجماعة، وأغلب الآثمين هم بسبب القراءة، ينجُم عن فعلهم المنكر (العلم، المعرفة) بتأويل كاذب الجفاف والقحط وتفشّي الأمراض، فيؤتي من تظهر عليه العلامة ويعترف ب (الإثم) وينفى إلى (جبل الغائب) أحد ثلاثة جبال محيطة بالبلدة ويلتحق بمن يسمون (المنسيون) هؤلاء لا يشعرون لا بجوع ولا عطش ولا شهوة. تتعرف الجدة بثنة على الحصن وسيّده الذي يرغب في الزواج منها فتتمنع عليه ويبقيها داخل حصنه الذي لا مهرب منه، وتحدث لها مغامرات وتشهد على شخصيات ذات قدرات خارقة مثل(الخبّابة) صانعة المحبة، و(الصفيراء) قاطعة الوصال، وتُسجن في الحصن إلى أن يمكنها أن تتحرر وبقدرة عجائبية سيتدخل شخص اسمّه الأصلي(الموت) سرّه تحريك جيش الّرمّة التي تعمل نهشًا وأكلا للحصن حتى يتهدم ويلقى سيده وتابعه ألماس هلاكاً شنيعًا، ويبقى عليها هي أن تعتق أفراسها وحبيبها الممسوخ لا يتأتى ذلك إلا بقتل ساحر القصر وهو ما ستحققه ليعود إليها حبيب القلب، ويرحلان سقطت وراءهما (مجاز) تحرر أهلها، وهذا كله يجري في أزمنة بمئات السنين.

وفي الجهة الأخرة من الحياة تكون الكاتبة الحفيدة تتماثل للشفاء في العيادة تخرج من غيبوبتها وكأن كلّ ما مرّ كابوس لتعود إلى برّ الواقع بعد سباحة طالت في بحر الخيال، وإنه لخيال شاسعٌ، فيه من ألف ليلة وليلة ومن الخرافة وأساطير الأولين والأحاجي الكثير. وإن شئت أن تقرأه قراءة آثمةً مغريةً تجد فيه رموزًا كثيفة وعلامات تحيل إلى الحاضر بقوة بخطابٍ مضمر. هنا أسكت مثل شهرزاد عن الكلام المباح، ويبقى على طرف لساني سؤالان: ترى لو يتوفر للكاتب العربي حرية التعبير كاملة، هل سيلجأ إلى الحكاية ليكتب الرواية؟ ثم هل تستطيع الرواية أن تتجسد وتتنفس باستمرار بالأسطورة في عالم ينهشه المادي، أم هذه هي الملاذ الأخير إزاء نضوب الخيال؟     

اقرأ في النهار Premium