يوشك جيل كامل أن يودعنا... جيل ازدهر وتألق مع ظهور التلفزيون وتمثليات الأبيض والأسود، فها هو صلاح السعدني يرحل مع تداعي أسطورة التلفزيون نفسها. فلم تعد هناك شاشة للعائلة بل شاشة بحجم الكف لكل شخص. انتهى العصر الذي يتحلق فيه أفراد الأسرة حول موعد مقدس لمسلسل المساء، وكان السعدني (أكتوبر 1943 ـ أبريل 2024) جزءاً من هذا التاريخ الحميم للدراما طيلة ستين عاماً، جزءاً من الذاكرة الثقافية والقومية للعرب جميعاً قبل أن تتفتت بيننا الشاشات. حيثما كان موقعك من المحيط إلى الخليج لا بد أنك شاهدته في طفولتك وتعلقت به. ربما في دور "العمدة" في "ليالي الحلمية" بكل إحالاته الطبقية ونزقه واندفاعه وضجيج صوته.. ربما في "أيام حسن النعماني" أو "آرابيسك" وهو يقدم مرثية لزمن النخوة والشهامة.
يفضل البعض أن يلقبه بعمدة الدراما تأثراً بدوره الشهير، لكن لمفهوم العمدة سلطة لا تعبر عن مجمل أدواره ولا طبيعته الشخصيته. ولأن عبقريته تنبع من طيبته، من ذلك الإحسان المريح وهو يتحرك ويتكلم بهدوء على الشاشة. وتلك الثقة غير المبالغ فيها.
زمن الطّيبين
ثمة ممثلون تعوّدنا على طيبتهم مثل عبد الوارث عسر وحسين رياض في أفلام الأبيض والأسود، كانوا بمثابة تعويذة طيبة وفأل خير، يجعلوننا كمتفرجين نشعر أن أفلامهم أفلامنا، تعبر عن أرواحنا وقيمنا وليست مستعارة من هنا وهناك، ولكثرة ما ألفناهم نظن أنهم لم ولن يموتوا!
كان حضور السعدني في المسلسلات يشبه تلك الطيبة المعتقة.. فهو الابن الذي يتحمل المسؤولية والأخ المساند والصديق الوفي وابن البلد ذو المروءة والشهامة. ليس معنى ذلك أنه لم يقدم أدوار الشخص الانتهازي والشرير.. لكنّ ثمة حجاباً شفيفاً لا يجعل شره يلصق به. فلن يتذكره الجمهور وجهاً شريراً يستوجب الكراهية.. بل كان وجوده على الشاشة صمام أمان لمعانٍ إيجابية، يمكننا أن نسميها رسالة الدراما ودورها في توعية الناس وتقديم كشف حساب بكل ما نخسره جيلاً بعد جيل.
ولمَ لا والسعدني من أكثر الممثلين وعياً وثقافة، وهو الأخ الأصغر للكاتب الساخر الراحل محمود السعدني. وبالفعل لعب محمود دوراً مهماً في توجيه شقيقه الأصغر وتقريبه من كبار مثقفي عصره.
لهذا السبب، فإن أعماله لا تغلفها الطيبة فحسب بل الثقافة أيضاً، هي دراما واعية مثقفة، سواء أكانت مسرحية مثل "الملك هو الملك" لسعد الله ونوس، أو مسلسلاً مثل "الناس في كفر عسكر" للروائي الراحل أحمد الشيخ.
معايير النّجومية
برغم أن ثمة شكوكاً حول مفهوم النجومية؛ فالسعدني لا يملك تلك الوسامة الطاغية التي تسحر قلوب الفتيات والنساء مثل عمر الشريف ورشدي أباظة، وليس أحد ملوك الأكشن والشر على طريقة المليجي وفريد شوقي، وليس مضحكاً كبيراً مثل رفيقي دربه عادل إمام وسعيد صالح، مع ذلك أحبه الناس وتوّجوه كبيراً بين الكبار.
ولأنه لا يتمتع بنجومية شباك التذاكر، أدارت له السينما ظهرها نسبياً، بينما وقع التلفزيون في فتنته. وربما كان نجماً لا يكترث لمعايير النجومية بل يستمد سحره من الألفة والطيبة والثقافة.. من كونه يشبه الناس العاديين بملامح عادية ووجه أسمر وجسد عادي.
كانت حظوظه في التلفزيون هائلة ومؤثرة، وما زلت أتذكر أنني التقيت في الكويت برجل مصري بسيط يعمل ميكانيكي سيارات كان يتقمص شخصية "حسن النعماني" وبالشارب نفسه، ولا يمل الفرجة وهو يبكي أحياناً ويصر على أن المسلسل يروي قصة حياته! كما تابع الناس بشغف كبير مسلسله "ولسه بحلم بيوم" عام 1982، مع نور الشريف، وإخراج يوسف مروزق وكتابة محسن زايد. وبسبب انقطاع الكهرباء على نطاق واسع في مصر وقتها أعيدت الحلقة الأخيرة لإرضاء الملايين.
ويصعب حصر منجز السعدني التلفزيوني طيلة ستين عاماً، خصوصاً مع تنوعه ما بين بطولة أساسية، أو جماعية، أو وجوده في الأدوار الثانية والشرفية، فمن ينسى مسلسلات: "أبواب المدينة"، "وقال البحر" و"النوة" وكلها تأليف أسامة أنور عكاشة، "أبناء الأعزاء شكراً" تأليف عصام الجمبلاطي، "أديب" عن قصة طه حسين، "عصر الحب" و"بين القصرين" و"قصر الشوق" و"خان الخليلي" لنجيب محفوظ، "يوميات نائب في الأرياف" و"المكتوب على الجبين" لتوفيق الحكيم، "الشوارع الخلفية" لعبد الرحمن الشرقاوي، "غريب في المدينة" عن قصة جوجول، "أم العروسة" تأليف عبد الحميد جودة السحار، "سفر الأحلام" لوحيد حامد، و"الزوجة أول من يعلم" تأليف نبيل عصمت، "وبالوالدين إحساناً" قصة سميرة محسن، و"الرحايا" تأليف حسن المملوك، و"شارع المواردي" في جزءين عن رواية محمد جلال، و"ليالي الحب والثأر" تأليف نادر خليفة، و"حواء والتفاحة" كتابة محمد خليل الزهار، و"الرجل والليل" كتابة إسماعيل عادلي، و"حلم الجنوبي" تأليف محمد صفاء عامر، و"أوراق مصرية" أكثر من جزء، و"الأصدقاء" تأليف كرم النجار، و"رجل في زمن العولمة" في جزءين كتابة وإخراج عصام الشماع، و"عمارة يعقوبيان" عن رواية علاء الأسواني، و"حارة الزعفراني" عن رواية جمال الغيطاني، و"سيرة سعيد الزواني" عن نص لثروت أباظة.
فليس هناك مخرج تلفزيوني مهم أو كاتب مهم لم يتعاون معه السعدني، لكن في مجمل خياراته كان للنص الأدبي أولوية قصوى، لذلك ليس غريباً أن يكون شريكاً أساسياً لعمدة الرواية التلفزيونية أسامة أنور عكاشة.
لكن ليس لدينا إحصاءات دقيقة عن أكثر الممثلين ولعاً بفتنة النص المكتوب، ربما السعدني ونور الشريف هما أكثر أبناء هذا الجيل إخلاصاً للنص الأدبي، ولهذا ليس غريباً أن تتكرر في مشوارهما أسماء كبار الكتّاب.
وإذا كان السعدني يُعلي دائماً من شأن النص، فهذا لا يعني أنه يسجن نفسه في نمط معين من الشخصيات، بالعكس سنراه فلاحاً من مخزون أصوله الريفية حيث ينتمي إلى محافظة المنوفية، كما سنراه في الجلباب الصعيدي ومجتمع البحر والصيادين والأسطوات والأفندية.
وقد استمر صعوده التلفزيوني يزداد رسوخاً وألقاً منذ دور شاب أخرس في "الضحية" عام 1964، تأليف عبد المنعم الصاوي وإخراج ملك الفيديو نور الدمرادش، وهو من أوائل المسلسلات التي دشنت عصر الدراما التلفزيونية.. وصولاً إلى مسلسله "القاصرات" عام 2013 وبعدها احتجب السعدني لظروف صحية وافتقدته الشاشة عقداً كاملاً قبل رحيله، وحدث شيء مشابه لصديق عمره وزميله في كلية الزراعة عادل إمام الذي اعتزل هو الآخر.
تذبذب سينمائي
امتدت مسيرة السعدني الصاعدة تلفزيونياً طيلة نصف قرن، لكنها لم تكن بالألق ذاته مسرحياً كما حدث مع رفيقي دربه سعيد صالح وعادل إمام. كما اتسمت مسيرته السينمائية بالتذبذب، أحياناً يرضى بأعمال تجارية لا تضيف شيئاً، وأحياناً يشارك في أفلام تعد علامة بارزة في تاريخ السينما، ولا يبدو أنه كان مشغولاً بحجم الدور. مع ذلك لديه مشاركات في أفلام لا تُنسى أهمها: "الأرض" و"اليوم السادس" ليوسف شاهين، "أغنية على الممر" و"درب الرهبة" علي عبد الخالق، "الرصاصة لا تزال في جيبي" حسام الدين مصطفى، "طائر الليل الحزين" يحيى العلمي، "الوحش داخل الإنسان" و"لعدم كفاية الأدلة" و"ليل وخونة" لأشرف فهمي، "برج المدابغ" لأحمد السبعاوي، "الغول" مع عادل إمام، و"فتوة الناس الغلابة" و"قضية عم أحمد" مع فريد شوقي، "جبروت امرأة" بطولة نادية الجندي، "زمن حاتم زهران" مع نور الشريف، "الزمار" و"ملف في الآداب" إخراج عاطف الطيب، "طالع النخل" للمخرج محمد فاضل، "شحاتين ونبلاء" و"كونشرتو في درب سعادة" لأسماء البكري، "المراكبي" إخراج كريم ضياء الدين.
هذا لا يمنع مشاركته في العديد من الأفلام الكوميدية الناجحة أشهرها "كراكيب" مع آثار الحكيم، و"فوزية البورجوازية" مع إسعاد يونس، هذا الشريط الفاتن الذي قدم استعارة هزلية ساخرة من عالم المثقفين وشعاراتهم.
وصحيح أنه قلّما حصل على بطولة سينمائية مطلقة، لكنه اجتهد في تنويع أدواره وترك بصمة مهمة وسط منافسة مع نجوم جيله الكبار مثل نور الشريف ومحمود عبد العزيز وأحمد زكي ومحمود يس.
فخلال نصف قرن أبدع السعدني في أكثر من مئتي عمل، سيظل الكثير منها حياً في ذاكرة الجمهور العربي، لأنها أعمال راهنت على المعنى والقيمة الفكرية والإنسانية، واكتسبت سحرها من تلك الطيبة والألفة في حضور السعدني نفسه، لذلك كل من طالع خبر رحيله، شعر بمرارة الخسارة وفداحة الفقد لشخص قريب من القلب. هو الأخ والأب والصديق والسند الذي ألفنا صوته وملامح وجهه سنوات وسنوات.. حتى ظننا أنه قد ينتصر على الزمن!