في سوق الأوزبكية القديم في القاهرة، وأمام بسطة من الكتب المغبرّة المنسيّة، انطلقت رحلة بحث أدبيّة استمرت قرابة الثلاثين عاماً.
آنذاك، توقفت الطالبة الجامعية إيمان مرسال أمام بائع الكتب وهو يحمل كتاباً قديماً بغلاف رمادي وينادي بأعلى صوته "الكتاب بجنيه". لفت نظرها أن اسم الكاتبة هو "عنايات الزيات" فظنّت بلا تردد أنها الشقيقة الصغرى للكاتبة والناشطة المعروفة لطيفة الزيات.
اشترت الكتاب وكان بعنوان "الحب والصمت" ومضت قدماً، من دون أن تعلم أن هذا الكتاب الصغير القليل الصفحات سيغير حياتها ويأخذها إلى عالم كاتبته الشابة التي قضت انتحاراً.
تقول مرسال التي تعد اليوم من أبرز الشاعرات المصريات المعاصرات، إن الكتاب حمل مفاجأة كبيرة لها، "كان صوته الأدبي معاصراً وحديثاً ومختلفاً للغاية بحيث يصعب تصنيفه". أسرها أسلوب الكاتبة التي تناولت حياة شابة فقدت شقيقها الأصغر ولم تستطع تخطي صدمتها، فقررت أن تبحث عن كتابات أخرى لها، لكنها لم تعثر سوى على إعلان وفاة في جريدة مصرية يعود لعام 1963 مرفقاً بصورة لعنايات الزيات، لتعلم لاحقاً أن الأخيرة قررت إنهاء حياتها بجرعة زائدة من الأدوية.
مدفوعة بحسها الأدبي، قررت مرسال أن تبحث أكثر في حياة الزيات وأن تستكشف خفايا حياتها والضغوط التي دفعتها إلى الانتحار، حتى أنها عهدت لنفسها أن تتناول قصة حياتها في كتاب تخليداً لذكراها. تملكها شعور خفي بأنها مسؤولة عن استكمال حلم عنايات الزيات التي أرادت أن تصبح كاتبة معروفة فعاكستها الظروف. واعتبرت مرسال أن الصدفة التي قادتها إلى شراء الكتاب المنسيّ قد تكون إشارة قدرية لها.
لم يكن من السهل العودة إلى حياة شابة رحلت قبل ثلاثة عقود والكتابة عنها، لا سيما أن عائلتها زيفت الكثير من الحقائق وخبأتها لحماية سمعتها مما فعلته ابنتها.
استغرق الأمر سنوات طويلة قبل أن تصدر مرسال كتابها "في أثر عنايات" عام 2019، وهو الكتاب الفائز بجائزة الشيخ زايد. لتعود قبل أيام قليلة وتصدره باللغة الإنكليزية، بعدما ترجمه روبن موجر وأصدرته دار "ترانزيت" الأميركية.
لإتمام كتابها، بحثت مرسال أولاً عن صديقات عنايات للحديث معهن، وكانت المفاجأة أن إحدى أكثر المقربات منها هي الفنانة المشهورة للغاية، نادية لطفي. حدثتها لطفي عن صداقتهما المتينة وذهابهما معاً إلى السينما مع والد عنايات لمشاهدة أفلام فاتن حمامة المحببة لهما، وزياراتهما المستمرة إلى الخياطة "مدام أفلاطون" لتفصيل فساتين متشابهة، وعن أحلام عنايات بأن تصبح كاتبة معروفة قبل أن تتزوج.
عادت مرسال إلى حقبة جمال عبد الناصر التي اتسمت بظهور مجموعة بارزة من الكتاب الراغبين بالتغيير المجتمعي للأفضل، وكان من بينهم عنايات الزيات. وهي شابة مثقفة ورقيقة للغاية بشهادة المقربين منها، عاشت حياة رغيدة في ظل أب منفتح، ومارست الفنون، لتتزوج عند بلوغها الـ19 عاماً من رجل ثري. لكن زواجها لم يكن ناجحاً، حتى أنها اختبرت طلاقاً مريراً بعد إنجابها ابنها وكانت قبل وفاتها على وشك أن تخسر حضانته في المحكمة.
بدا أنها أرادت أن تهرب من كل المشكلات التي تواجهها عن طريق الكتابة، فعكفت على كتابة رواية "الحب والصمت" مع أنها كانت تمر بظروف نفسية صعبة للغاية. حتى أنها كتبت في مذكراتها التي وصلت إلى يد مرسال بعد بحث مضن أنها تشعر "كما لو أنني خيال مآتة.. يدي تهتز عندما أحمل كوب القهوة ولا تنفع المنومات مع الأرق، فضلاً عن زيارات الطبيب النفسي كل أربعاء"، لتعود وتضيف "لا أعني شيئاً لأحد.. عندما أسير لا أترك أثراً، كما لو أنني أطفو على الماء؛ أنا لست مرئية".
انتقلت إيمان مرسال إلى الولايات المتحدة لكنها حرصت على متابعة بحثها لأنها كانت تشعر برابط خفي مع عنايات. "تحدث كتابها إلي بطريقة لم أعهدها مع أي كاتبة أخرى"، تؤكد مرسال التي كانت تواجه الإحباط بدورها وتبحث عن معنى لحياتها ككاتبة، تماماً مثل الزيات.
بعد بحث طويل، توصلت مرسال إلى السبب الذي دفع عنايات إلى الانتحار تاركة بقربها قصاصة ورق لابنها كتبت فيها: "أحبك لكن الحياة أصبحت لا تطاق... سامحني".
قبل انتحارها بيوم واحد، تلقت والدة الزيات اتصالاً هاتفياً من الدار القومية للنشر الذي رفض نشر الرواية. لم تتقبل عنايات الرفض لأنه كان يعني نهاية لحلمها الوحيد الذي قد ينتشلها مما تعانيه من اكتئاب، فجزّت شعرها وحبست نفسها في شقتها الواقعة في الدور العلوي من شقة والديها، ليُعثر عليها جثة هامدة في اليوم التالي. لكنّ المفارقة أن كتابها وجد طريقه إلى النشر بعد أربع سنوات من وفاتها.
عن نهاية هذه الرحلة واكتمال كتابها ونشره باللغتين العربية والإنكليزية، تلفت مرسال إلى "أن الأمر كما لو أنك فقدت صديقاً. إنه شعور غريب من الفقد والحزن"، مستعيدة لحظة وقوفها للمرة الأولى قرب شاهد قبر عنايات الزيات، وهو أمر استغرق طويلاً إذ لم تتمكن من العثور عليه بسهولة لأنها لم تتوقع وجوده بين مدافن الخدم والعمال في العائلة الأرستقراطية التي كانت تخجل من فعلة ابنتها.
تقول مرسال: لدى وقوفي هناك شعرت بأنها "أسعد لحظة في تاريخ صداقتنا... شعرت أنها أخيراً صدقتني وسمحت لي بالوصول إليها، حيث هي موجودة فعلاً، وصلت إليها عبر سلسلة من الصدف السعيدة".