من بعيد يمكننا أن نبدأ، من تيمة الحب التي تعد التيمة المركزية في أعمال الروائي المصري عبد الرحيم كمال جميعها، سرداً ودراما.
ومن قريب أيضاً يمكننا أن نتحدث عن المنجز الإبداعي لعبد الرحيم كمال، عن تيماته المتواترة، وبنياته الأساسية، وملامحه الخلاقة، حيث يمكننا أن نرى بعضاً منها في تيمات الحب والارتحال القلق، والبحث عن اليقين وجميعها محددات مركزية في أعمال الكاتب السردية والدرامية.
أفسح عبد الرحيم كمال للخيال مناطق متعددة تجلّت في أعماله المختلفة، يمكن أن نرى ملامح منها في الفانتازيا العارمة في رواية "المجنونة"، ركاب طائرة كل ما يحدث فيها أقرب للجنون، والخيال الصوفي الرحب في "بواب الحانة"، حيث المآلات والتحولات، والخيال المعتمد على عناصر تراثية تعيدك إلى مدونة ألف ليلة وليلة في روايته الملحمية "أبناء حورة".
وفي "كل الألعاب للتسلية" نجد هذا اللعب الفني الذي يحيلك على علاقة المثقف بالسلطة.
أما هنا في روايته "موت العالم... المعروفة شعبياً بمذكرات محمود غزالة"، والصادرة في القاهرة حديثاً (دار الكرمة)، نجد عالماً أكثر تركيباً من نصوص الكاتب السابقة.
أربع تنويعات على تيمات الفقد، والوحدة، والاستلاب، تشكل الفصول السردية الأربعة التي تمثل متن الرواية: تكاليف الحياة، أهل البيت، البعث، سكان الفضاء الإلكتروني.
تتفاوت هذه الفصول الروائية في ما بينها في المساحة الكمية للسرد، حيث يأخذ الفصل الأول (التنويعة الأولى/ تكاليف الحياة) الحيز الكمي الأكبر من الرواية (127 صفحة من أصل 262 صفحة)، أي نصف الرواية تقريباً، وفيه تحضر إشكالية النص الأساسية، وجوهر الرواية وتقديمتها الدرامية.
كتاب مجهول
ثمة كتاب مجهول الهوية يلقاه سجين، كتاب منزوع منه الصفحات الأولى، يحيلك على عنوان الرواية "موت العالم... المعروفة شعبياً بمذكرات محمود غزالة"، ومن تقنية الرواية داخل الرواية، ولعبة الكتاب الغامض، الذي تركه سجين في محبسه؛ ليعثر عليه سجين آخر، تتوالى سردية البداية في رواية عبد الرحيم كمال، ولطالما حملت الرواية العربية لعبة الأوراق المجهولة أو المخطوط الذي يعثر عليه شخص ما؛ لكن هذه اللعبة الفنية تأخذ مساراً روائياً آخر هنا، عبر توظيف تكنيك النص المصاحب Companied Text الذي يعاين حيوات المحيطين لمحمود غزالة، ويكشف عن العلائق الاجتماعية بينهم.
يستهل الكاتب روايته، صانعاً حالاً من التشويق الدرامي عبر افتتاحية دالة، ونافذة: ما أجمل رواية في العالم؟
رواية حظي بها سجين في زنزانته، فكانت رفيقة سجنه، وجدها ملقاة على أرض الزنزانة بلا غلاف، ولا يعرف من كتبها، فقط صفحات متتالية، فصارت تسليته طوال وحدته، رواية ليست لها صفحة غلاف ولا تحمل اسم دار للنشر ولا اسم كاتب ولا رقم إيداع. هذه الرواية بالنسبة إليه هي العالم بأكمله، كانت تضيء ظلمة محبسه بل تشعله بالنور، وتقيم فيه الأفراح والمآتم" (ص 5).
تكنيك الرواية داخل الرواية
يعد تكنيك الرواية داخل الرواية هو ما يعتمد عليه نص "موت العالم"، وهو تكنيك مراوغ، تتسع مخاتلته في النص حين يبدو ثمة أب آخر للرواية "سعد عيسى" موظف الرقابة على المصنفات الفنية، والكاتب المغمور الذي صار شهيراً في ما بعد.
ولا نكتشف ذلك إلا في الفصول التالية التي تلي الفصل الأول المركزي في الرواية؛ لنصبح أمام تجسيد لما يعرف بالرؤية المصاحبة حيث يعرف القارئ في اللحظة التي يعلم فيها الأبطال والشخوص أنفسهم، فليس ثمة راو عليم هنا يعرف كل شيء، ويخلق مصائر أبطاله ويحدد مساراتها مسبقاً. فثمة رواية كتبها سعد عيسى تراها لديه فوزية أو سوزان كما أصبحت تسمى بعد ولادتها الجديدة عقب لقائها بسعد أو عيسى، وتنتبه إلى اسم الرواية "موت العالم المعروفة شعبياً بمذكرات محمود غزالة".
وتعلم ونحن معها أن غزالة كان مدرّساً لسعد، يكتب الخطابات الغرامية للمحبين، وحينما يطلب منه سعد أن يكتب خطاباً إلى هالة يبادر على الفور، ولكن وشاية سعد به بعد افتضاح أمر الخطاب تفضي به إلى الفصل من المدرسة، ليسلك بعدها مساراً مهنياً وإنسانياً آخر.
مرويتان ومسارات متعددة
ثمة مرويتان هنا عن غزالة: إحداهما تتصدر الرواية وتخاتل القارئ حتى منتصفها، حيث غزالة المعتقد بأن الناس قد ماتوا، وهم لا يعلمون، ويبدأ في تسريب دعوته التي تتخذ شكلاً غرائبياً، يصنف فيه الناس إلى موتى هم الأغلبية الغالبة، والبعض المنتمي إلى تلك الأرواح المنهكة، ونفر قليلون هم الأحياء الحقيقيون، هكذا رأى غزالة صباح الممرضة، وصديقه أحمد عبد الحميد التائه في شوارع الحسين وباب النصر، وهكذا أدرك السجان رشدي شحاتة، وهكذا حاول أبانوب.
أما الباقون مثل مريم الزوجة المتبلدة بطفليها، وصولاً إلى زملاء العمل، والجيران، والطبيب النفسي، والقاضي، فقد ماتوا وهم أحياء، وكذلك كل من رآهم غزالة بعد حادثة قتله المتخيلة لجاره سمير أسعد الذي فطن هو الآخر إلى مشكلة الإنسان المعاصر، حيث الفقد والرتابة والملل، ونمطية الأفعال والسلوك وميكانيكيتها هي المهيمنة على العالم، ليموت الإنسان بفعل هذه الآلية؛ وحينما يموت الإنسان يموت العالم الذي يعد الإنسان جوهره. تلك فكرة غزالة التي دافع عنها وزخرت بها الرواية: "وعلى ذلك، فإنني أدعو من محبسي هذا كل من تقع عيناه على كتابي، أن يجعل هدفه الأسمى هو إنقاذ الناس من الموت عبر التواصل والصدق والحب، حب حقيقي، حب للحياة التي هي سر الله فينا، والحب يحتاج إلى قدر عال جداً من السماح والمغفرة، وترك الملامة، لا تعاتبوا ولا تلوموا شخصاً روحه أجهدها الاستعمال! اغفروا زلاتهم، وقسوتهم، وعدم مبالاتهم، وسوء سلوكهم، مهما حدث وصدر عنهم، حتى لو أوشك أحدهم على قتل من يدعوه إلى الحياة، سيموت شهيداً بالتأكيد، فقد مات من أجل أشرف وأعظم غاية" (ص 104).
وفي القسم الثاني "أهل البيت" يتجلى أكثر من بيت، ويلعب الكاتب على هذه التيمة في تجلياتها المتعددة، بدءاً من الإطار المقدس، إلى المسارات الإنسانية. من بيت سعد علي نيل الجنوب المصري إلى البيت الضائع لفوزية، ومن بيوت البلدة إلى "الجرن" مسرح لعب الصبية الثلاثة: سعد ورمضان وخلف. ومن لعبة البيت الإنكليزي إلى بيت سعد في القاهرة إلى بيت عزمي وفدوى الطارد لأختها فوزية.
يبدأ الفصل الثاني بشعر إبراهيم اليازجي مثلما حوى الفصل الأول توظيفاً لشعر ابن الفارض، هنا يسيل الحنان والتحنان، مثلما نرى رهافة المعنى بين سوزان وعيسى، حيث الونس، والوصل، والمحبة الخالصة التي أنبتتها لحظة فارقة على المسار الذاتي للشخصيتين المفعمتين بالأسى، والشجن، والرغبة الغامضة لحياة جديدة ملؤها بناء الألفة الوليدة مع الأشياء.
وفي الفصل الثالث "البعث"، يعود غزالة من جديد كهلاً على خلاف ما انتهى إليه الفصل الأول. ونراه لم يقتل جاره الذي صار فايز رفعت وليس سمير أسعد كما في المروية الأولى. وتدور الظنون في البداية بين غزالة وفايز، ويتمنى كلاهما قتل الآخر، لكن لا أحد يقتل أحداً، ويصيران عجوزين متلازمين، يغادران ضيق الكراهية إلى رحابة المحبة.
وفي الفصل الرابع "سكان الفضاء الإلكتروني" يولد جيل فاتحته "أحمد حسن"، يكتب البوستات على مواقع التواصل الاجتماعي، ويلعب على iPad وهو رضيع! ينشئ جبهة أعداء الحياة بمعناها المباشر، أي الحياة الطبيعية الواقعية، وقد صار العالم الافتراضي بديلاً موازياً، وعالماً يحياه ويتلذذ بالعيش فيه؛ لذا فهو يريد أن يتخفى دوماٍ خلف "الكيبورد".
وتتواتر تنويعات الحكاية التي تستكمل على دفعات، ويصبح سعد بطلاً مهيمناً على فضائها. وقد صار كاتباً شهيراً يخرج شخوصه ليمارسوا العبث بالعالم! سعد عيسى المنتظر عودة فوزية / سوزان، التي تعود مع كل فتاة تقترب ليوقع لها روايته الجديدة، ويكتب التوقيع ذاته: "إلى سوزان التي أحببتها".
وتنتهي الرواية بمشهد طيفي، حيث ثمة رجل وامرأة في الميدان المزدحم، يبدآن قصة حب جديدة، علهما يعيدان معاً تشكيل العالم، وهو مختتم سردي يحوي ترميزاً دالاً.
وبعد.. هذه رواية اللعب الفني المركب، والخيال الخصب النابع من كاتب خبر فن الرواية جيداً، يسير إبداعه بخطى واثقة، مدركاً أن الكتابة/ الكتابة تعني انتقالاً نوعياً بالمشروع السردي إلى أفق أكثر رحابة، ووعداً، وتمثيلاً للجمال في متن النص، واستنباتاً له من جوف الخيال، والواقع.. الذات والعالم.. المعنى، والأشياء.