ليس هناك اتفاق على السنة التي ولد فيها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، حتى في أوراقه الرسمية، فجواز السفر الخاص به يقول إنه ولد في 13 آذار (مارس) عام 1910، بينما بطاقته الشخصية، المعروضة في متحفه في معهد الموسيقى العربية في القاهرة مدوَّن فيها أنه من مواليد الرابع من أيلول (سبتمبر) عام 1910.
ووفقاً لتقديرات موضوعية، فإن عبد الوهاب كان أكبر من المدوَّن رسمياً بنحو ثماني سنوات. وهذا ما يعتمده مؤرخ الموسيقى والغناء العربيين محمد دياب في كتابه "مذكرات الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب" (دار المرايا – القاهرة).
وفي هذا الكتاب جمع دياب صيغتين لمذكرات عبد الوهاب، الأولى نشرت عام 1938 في مجلة "الاثنين"، والثانية نشرتها مجلة "الكواكب" عام 1954.
بذل دياب جهداً بحثياً ملحوظاً ليقدم هاتين الصيغتين ويعلق على محتوى كل منهما، وتجلى ذلك في دراسة تصدَّرت الكتاب ركّزت على "ما لم يقله عبد الوهاب"، فيهما، أو في الصيغ الأخرى لمذكراته، والتي ظهرت في مراحل مختلفة من عمره المديد، في كتب عدة وفي لقاءات متلفزة وأخرى إذاعية. أما تاريخ وفاته فلا اختلاف بالطبع عليه، وهو الرابع من أيار (مايو) 1991. ويقول دياب: "ربما كان عبد الوهاب حقيقة من مواليد أيلول (سبتمبر)، غير أنه كان يحتفل ويترك الآخرين يحتفلون بيوم مولده في الثالث عشر من آذار (مارس) من كل عام، أما تاريخ سنة مولده فتلك معضلة أخرى قُتلِت بحثاً، حتى استقر الأمر على عام 1902؛ لأنه العام الذي يتسق مع ما حدث من وقائع تاريخية للأحداث".
وينقل دياب عما جاء في كتاب فكتور سحاب "محمد عبد الوهاب سيرة موسيقية"، من أن شقيقه سليم سحاب سأل الباحثة إيزابيلا روبينوفا عن سبب إثباتها أن عبد الوهاب ولد عام 1902 في كتابها "دراسات في الموسيقى العربية"، فأكدت له أن عبد الوهاب هو الذي أبلغها بذلك حين سألته عن سنة مولده لإثباتها في كتاب علمي.
الأوراق الخاصة
ومن الكتب التي تضمنت سيرة موسيقار الأجيال وصدرت بعد رحيله كتاب "محمد عبد الوهاب: رحلتي / الأوراق الخاصة جداً" من إعداد وتقديم الشاعر فاروق جويدة الذي اتكأ على "خواطر" كتبها عبد الوهاب نفسه وأوصى زوجته نهلة القدسي بأن تسلمها إلى جويدة لينشرها في كتاب. ويقول جويدة إنه اكتشف وهو يقلب هذه الصفحات أن هناك عبد الوهاب آخر غير الذي نعرفه بين هذه السطور؛ "لقد حاول الرجل في هذه الأوراق أن يكون نفسه، أن يفصح عن أشياء كثيرة كان من الصعب أن يبوح بها".
ولأن عبد الوهاب، كما جاء في التعريف بمحتوى هذا الكتاب على موقع "جود ريدز"، كان إنساناً حذراً في معظم الأحيان ومجاملاً في أغلب الأحيان؛ "فقد قال في هذه الأوراق كل ما عنده: في هذه الأوراق آراء سياسية حادة جداً كتبها عبد الوهاب. وفىها آراء فنية جريئة وصريحة وقاطعة، وشهادات إنصاف كثيرة".
وبما أن مذكرات محمد عبد الوهاب التي احتواها كتاب محمد دياب نشرت في مرحلة مبكرة من مشواره الفني، فمن الطبيعي ألا تتضمن الكثير من الأحداث والمواقف والرؤى التي عاشها وتفاعل معها لاحقاً. وعلى أي حال فإن محمد دياب اجتهد في سد كثير من الفراغات في سيرة عبد الوهاب بمختلف صيغها عبر مصادر شتى، مركزاً على "أسرار" لم يبح بها الموسيقار الكبير في البدايات أو باح بها غيره، تتعلق بملابسات احترافه الغناء ومن ثم التلحين ونشأته وعلاقته بوالديه وإخوته، وعلاقاته النسائية وعلاقته برموز الفن والسياسة والأدب والسينما والمسرح في زمنه، وغير ذلك.
مع شوقي
ولاحظ دياب أن علاقة عبد الوهاب بأمير الشعراء أحمد شوقي ورحلاته إلى العراق ولبنان، هي القاسم المشترك بين المذكرات الأولى والثانية، غير أن مذكرات "الكواكب" انفردت بحديثه عن علاقته بالملك فاروق وبفصل خاص عن علاقاته بأقطاب حزب "الوفد"؛ بدايةً من سعد باشا زغلول، مروراً بمصطفى النحاس ومكرم عبيد وعبد المجيد عبد الحق، الذي قدَّم أغنية خاصه له عام 1951 يحث فيها أهالي السيدة زينب (أحد أحياء القاهرة الشعبية) على انتخابه عضواً في البرلمان. وكان عبد الحق يشغل منصب وزير العدل في حكومة "الوفد"، وهو الشقيق الأكبر للملحن عبد العظيم عبد الحق. ارتبط عبد الوهاب بصداقة حميمة مع النحاس باشا، حتى أن النحاس باشا شكَّل حكومته ذات مرة في منزل عبد الوهاب في ضاحية الهرم، غرب القاهرة، بعدما تلقى اتصالاً من القصر الملكى بتكليفه بتشكيل الوزارة، بعد حادث محاصرة دبابات الاحتلال البريطاني القصر نفسه في 4 شباط (فبراير) عام 1942، حسب ما ذكر عبد الوهاب نفسه لمجدي العمروسي في كتابه عنه والذي صدر عقب وفاته.
وكان عبد الوهاب هو حمامة السلام التي تصلح ذات البين ما بين أقطاب الحزب في حال نشوب خلاف بينهم. غنى عبد الوهاب في عرس النحاس على زينب الوكيل عام 1934 وقدم أغنية خاصة لهذه المناسبة من تأليف حسين عبد الحميد، تقول كلماتها "النيل يهني بفرحه شخصك الغالي/ والأمة تهتف وصوتها في الهتاف عالي / لمصطفاها العظيم والكوكب الهادي/ الله يبارك زواجك يا زعيم النيل / وينصرك والوطن عالظالم العادي".
المسكوت عنه
ويقول دياب: المؤسف في أمر هذه المذكرات جميعاً، هو أننا إذا جمعناها معاً وضممناها في كتاب واحد لبقي هذا الكتاب منقوصاً، فالموسيقار الكبير كان يغفل ذكر أمور ووقائع أو يذكر بعضها على غير حقيقتها سهواً أو عمداً، بسبب رغبته الملحة في جعل سنه أصغر بضعة أعوام، أو من أجل الحفاظ على صورته الأيقونية موسيقاراً للشرق، وهو ما جعل كثيراً من الوقائع المروية ملتبسة وغير متسقة مع سياق الأحداث تاريخياً و فنياً وسياسياً. ويضيف: لذا وجدنا من الواجب علينا هنا وقبل مطالعة المذكرات هذه أن نقدم للقارئ أولاً صورة موثَّقة مختصرة عن حياة الموسيقار الكبير؛ اعتمدنا فيها على مراجع وشهادات مهمة لمن عاصروه في بداياته الأولى. والحقيقة هو أن عبد الوهاب لا يمتّ بأي صلة إلي الشيخ الشعراني سوى الصلة الروحية فقط، وأنه قال ذلك من باب التبرك بالشيخ الجليل صاحب المقام، فوالد عبد الوهاب فلاح من قرية في محافظة الشرقية ووالدته ذات أصول تركية والشيخ من مواليد القليوبية وحمل لقب الشعراني نسبة إلى قرية بني شعرة التي نشأ فيها في محافظ المنوفية. ومن المصادر التي أورد عنها ما لم يقله موسيقار الأجيال، شهادة محمد يوسف شمعون، الفنان البسيط الذي قدم لمصر والعالم العربي الموسيقار الكبير. وهذه الشهادة، كما يقول دياب، "تجلي بعض الحقائق الخفيّة، ومنها أنه كان صاحب الفضل في إقناع والد وشقيق عبد الوهاب بالموافقة على عمله في الغناء شرط أن يكون تحت رعايته، كابن له، ناهيك عن وضعه لحني أول أغنيتين خاصتين بمحمد عبد الوهاب في حياته الفنية، من بينها قصيدة قدمت في حفل رثاء الشيخ سلامة حجازي أحد أهم الموسيقيين الذين ألهموا عبد الوهاب في طفولته وصباه، ولم يتح له القدر فرصة الالتقاء به".
صبي ترزي
ويضيف: "للأسف لم يعامل عبد الوهاب محمد شمعون بالشكل الذي يليق بمعروفه وجميله عليه، ربما لأنه كان يخجل من أن يذكر أنه كان يعمل صبي ترزي في محل متواضع لقاء خمسة مليمات يومياً ليساعد أسرته في معاشها، وهذا أمر يشرّف عبد الوهاب ولا ينتقص من قدره، فلم تكن أم كلثوم الفنانة العصامية، مثلاً، تخجل من ذكر أنها كانت تعمل طفلة في جمع القطن في الحقول لقاء مليمات معدودة لمساعدة أسرتها".
وعلى هذا المنوال يورد دياب الكثير من الوقائع التي لم يتطرق إليها عبد الوهاب مطلقاً في مذكراته، ولكن ذكرها آخرون من معاصريه، أو وردت في وثائق لا يرقى إليها الشك، ومنها أن الدعاية الخاصة بفرقة عبد القادر حجازي وصفته بالمطرب الشاب حين كان يغني بين فصول مسرحيتها "المجرم البريء" عام 1917، وهذا من الأدلة المرجحة لاستحالة أن يكون موسيقار الأجيال من مواليد عام 1910! وما لم يذكره عبد الوهاب عن تلك الفترة هو أنه كان لا يرفض أن يعير صوته لعبد القادر حجازي، مختفياً خلف ستار، ليتوهم المستمعون أن الأخير هو الذي يغني.
ويروى في هذا الصدد أنه بينما كان عبد القادر حجازي يتظاهر بالغناء في إحدى الحفلات، لاحظ أحد الحضور أن حركة شفاهه لا تتطابق مع الصوت، فقفز إلى خشبة المسرح ورفع الغطاء عن الكمبوشة، وإذا به يجد عبد الوهاب منسجماً في الغناء، وقبل أن ترفع كراسي المشاهدين لتهوي على رؤوس أفراد الفرقة فرَّ الجميع، وكان في مقدمتهم محمد عبد الوهاب نفسه. والثابت في تلك الفترة هو أن أمير الشعراء أحمد شوقي تقدم بشكوى رسمية طالب فيها بمنع عبد الوهاب من الغناء إلى أن يتجاوز سن المراهقة، بغرض الحفاظ على صوته. وترتب على ذلك توقف عبد الوهاب فعلاً عن الغناء لنحو عامين، وقد أفاده ذلك كثيراً، بما أنه ارتبط بتبني أحمد شوقي لموهبته وعمله على صقلها، بل وعلى تثقيف هذا الموسيقي الواعد، ووصل الأمر إلى حد أن كتب له شوقي الكثير من القصائد الفصحى والعامية ليغنيها قبل رحيله عام 1932.
....