لولا النبي موسى ما كنا لنسمع عن الشعب اليهودي، وهو النبي الذي احتلّ الصدارة في الأديان السماوية الثلاثة، فبحسب الوثائقي/ الدرامي الذي عرضته "نتفليكس"، ذُكر موسى وقصته في القرآن الكريم أكثر من 100 مرّة.
ولا أحد ينكر قوة قصة موسى بوصفه رجلًا حرّر العبيد الفقراء وخرج بهم من أرض العبودية (مصر) باتجاه أرض اللبن والعسل أو الأرض الموعودة (فلسطين). لكنّ قوة القصة لم تمنع دائمًا التشكيك في "تاريخيتها" أو إنكار وجودها أساسًا.
وربما لا نعرف نبيًا آخر مثل موسى ظلّ مؤيّدًا بالمعجزات في كل خطوة يخطوها تقريبًا، وربما كثرة وضخامة معجزاته يراها البعض ثغرات سردية استوجبت سدّها بشيء خارق للطبيعة ويصعب تصديقه.
أيضًا لا نعرف نبيًا آخر مثله تقلّبت به الأحوال من الثراء إلى الفقر، وعاش بين المدينة والصحراء، وارتكب فظائع مثل جريمة قتل المصري، واشتهر بقوته وعصبيته، حتى أنّه حطم ألواح الوصايا العشر المقدّسة، انتمى إلى قوم (العبرانيين) وعاش بين قوم آخرين (المصريين) وتزوج من قوم غير هذا وذاك، حيث تنتمي زوجته صفورة إلى أهل مدين، يرجح أنّها قبائل من عرب الشمال. ومجددًا قد تُفسّر كل تعقيدات وغرائبية سيرته بالثراء والتنوع بوصفه نموذجًا فذًا لسعي الإنسان مهما كانت تناقضات هويته، وما ارتكب من أخطاء، وما يتسمّ به من طباع مثل العصبية والتلعثم، كي يرتقي روحيًا ويصل إلى الله.
إنّه شخصية ملهمة ودرامية بامتياز ومغوية بالتحليل والتأويل، قدّمتها "نتفليكس" بصريًا في سلسلة من ثلاث حلقات تناهز 4 ساعات، ومزجت ما بين مشاهد درامية مؤثرة وتعليقات الباحثين ورجال الدين ينتمون إلى الأديان الثلاثة.
ما وراء الدراما
حمل عنوان المسلسل اسم "الوصية: قصة النبي موسى"، بينما كانت لكل حلقة حبكة وعنوان خاص: النبي، العقاب، والأرض الموعودة. وشارك فيه ممثلون من خلفيات ثقافية ودينية مختلفة منهم: تشارلز دانس، كلارك بيترز، آفي أزولاي (في دور موسى)، ومحمد كورتولوش، وإخراج بنجامين روس.
ولا يُخفى أنّ طريقة تنفيذ المسلسل بمشاركة ممثلين وباحثين من الأديان الثلاثة يحمل رسالة إيجايبة حول إمكانية التعايش تحت مظلة الأديان الإبراهيمية التي تلتقي جميعها عند النبي إبراهيم، ويمثل موسى الحلقة المركزية بينها، إضافة إلى انتقاء ملامح تعبّر عن جغرافية الشرق الأوسط السكانية.
فالأعمال لا تُعاد لمجرد تطويب وتمجيد التاريخ والأساطير القديمة، وإنما لتمرير وإضافة معانٍ إليها. والدليل أنّ بعض الباحثين في تعليقاتهم على الأحداث كانوا يتكلمون عن مفاهيم مثل "العنف ضدّ النساء" و"تضامن العرقيات المختلفة" و"تحرير العبيد". فهل كان الناس قبل ثلاثة آلاف عام يدركون تلك المصطلحات وليدة الجامعات البرّاقة الآن؟
لكنّ الرسالة الأكثر أهمية من وراء تلك الدراما هو تعزيز السردية الإسرائيلية، باعتبار أنّهم أصحاب "الأرض الموعودة" أي أرض كنعان، استحقوها بوعد الله واختصاصهم بالإيمان به، وانتصارهم على "آلهة" المصريين، وبفضل كفاحهم في تيه سيناء أربعين عامًا، ومحاربة "العماليق" أي بدو تلك المنطقة.
إذا ألقينا نظرة عامة على جغرافية ذلك الزمن السحيق سنجد أنّ المنطقة تسيّدتها أربع إمبراطوريات: مصر، بابل، الحيثيون والفرس. وعلى تخوم تلك الإمبراطوريات القوية القديمة عاشت أقوام مهمّشة من البدو الرحّل أو "العابرون" ومن الخدم والعمال المهمشين.
وامتلكت هذه الإمبراطوريات حضارتها وأدبياتها ووثائقها الخاصة. وكان المصريون أكثرهم ولعًا بالتوثيق والنقش على الجداريات، لكنّ تلك الأقوام المهملة بدأت تكتسب شأنا بتقديم صيغ للدين مغايرة للمتعارف عليه آنذاك. وبرغم أنّهم ليس لهم أي ثقل حضاري يُذكر، لكنّ سرديتهم اكتسبت حجتها وقوتها بسبب تقديسها لدى أتباع الأديان الثلاثة التي ظهرت في تلك الجغرافية الهامشية بين شمال وجنوب الجزيرة العربية وأطراف الشام.
بالتالي، المسلسل لا يقدّم لنا سردية خاصة بالمصريين بوصفهم الإمبراطورية الأعظم آنذاك ـ إن وجدت ـ وإنما سردية مجموعة من العمال والبدو الرحّل، يخلط البعض في توصيفهم بين مفهومي "العابرون" و"العبرانيين".
من ثم نحن لسنا بصدد سردية موضوعية، ولا تاريخية، وإنما توراتية بامتياز، وإن تجمّلت بباحثين من أديان مختلفة لكنهم جميعًا يتعاملون بإيمان وتسليم تام بالرواية ذاتها، وإن اختلفت بعض التفاصيل الثانوية.
وبنص المقدمة: "هذا المسلسل عبارة عن رؤية اسكتشافية لقصة موسى والخروج بناءً على دمج آراء علماء دين ومؤرخين من مختلف الديانات والثقافات.. تهدف مساهمتهم إلى إثراء عملية السرد لكن لا ينبغي اعتبارها رواية متفقاً عليها".
بهذا الاحتياط لا يقدّم المسلسل ـ وبالتبعية أي قراءة لها ـ وقائع دينية أو تاريخية موضع إجماع، ولا يسعى لأية غاية إيمانية تخص تقديس الرسل والأنبياء، وإنما تتناول موسى كقائد ملهم ومؤسس أمّة، على حدّ جملة أساسية جدًا وردت على لسانه في المسلسل: "كيف أقود أمة بلا دين"؟
كانت هذه الصيغة الدينية ضرورية لمنح هؤلاء الرحّل المهمّشين شعورًا بالفخر لأنّ الله اصطفاهم عن عباده وأيّدهم بالمعجزات، وتعويض الكبرياء المهدرة في السخرة لدى المصريين، وخلق رابطة تضامن عظيمة بينهم.
في سبيل هذا التمجيد القومي ـ على أساس ديني ـ جرى تهميش الحضارة المصرية العظيمة وعرضها بشكل هزلي إلى حدّ ما، حيث يلجأ الفرعون إلى السحرة لا إلى العلم، ويبدو كشعب وثني لا يملك كتبًا ولا حكمة، برغم أنّ وصايا موسى العشر ما هي إلّا إعادة إنتاج لأدبيات مصرية قديمة. وحتى عند المقطع الخاص بإيواء حكيم مدين للنبي موسى وتزويجه من بنته صفورة، لا يشير المسلسل إلى أنّه من أصل عربي، ولا أنّ المسلمين يعتبرونه نبي الله شعيب، ولا يركّزون على فكرة أنّ موسى الذي لا يعرف أنّه "عبراني" تزوج بدوية عربية! وحتى ملامح الرجل وابنته أقرب إلى الأفارقة من ذوي البشرة السمراء.
أسطورة مؤسسة
هناك إجماع دقة دور موسى وخطورته، فلولاه لن تكون هناك الديانة اليهودية ولا الشعب أيضًا. لذلك وصفه فرويد ـ وهو من أكبر المفكرين اليهود ـ بأنّه "أسطورة مؤسسة"، بمعنى أنّه قد لا يُعرف تاريخ ميلاده ووفاته بقدر ما كانت هناك سلسلة من القصص تمّت نسبتها إلى اسم معين، وكان مبرّر فرويد في ذلك أنّه حمل اسمًا مصريًا وعاش مصريًا، والمسلسل يؤكّد أنّه كان "أميرًا" تبنّته أخت الفرعون، وعند فرويد يرجح أنّه كان ضابطًا مصريًا من أتباع أخناتون، تأثر بأفكاره الدينية وهرب بعد فشل الثورة الدينية مع الهاربين من العبرانيين وغيرهم.
فمن الناحية التاريخية، لا توفّر المصادر المصرية أية معلومات إطلاقًا عن موسى وقومه، على غير عادة المصريين المولعين بالتوثيق، وحتى الضربات العشر في التوراة، أو التسع حسب القرآن الكريم، كانت من الضخامة والمأساوية الذي يُستغرب معه عدم ورود أية إشارة تاريخية إليها. مثل تحويل ماء النيل إلى دم، واجتياج القمل والجراد والضفادع، والظلام التام، والبرد، وقتل كل الأبناء البكر للأسر المصرية.
وهي تقبل التفسير بوصفها كانت أمنيات وأحلام يقظة عمال مهمشين وحاقدين على السادة، أو وقائع ارتبطت بالطبيعة الزراعية للحضارة المصرية مثل احمرار ماء النيل عند الجفاف، لكنها وقائع حدثت على فترات متباعدة جدًا، فلم تترك أثرًا مميتًا على الشعب.
والمفارقة أنّ التأويلات الإسرائيلية للقصة ترجح أن يكون فرعون الخروج واحدًا من ثلاثة: تحتمس الثالث، ورمسيس الثاني (وكان هذا اختيار المسلسل)، ومرنبتاح. وثلاثتهم خصوصًا الأول والثاني، هم من أعظم ملوك مصر، ولا يمكن لهم بلوغ كل هذا المجد برغم هذه الضربات الإلهية القاسية جدًا، إضافة إلى أنّه لم يثبت وفاة أحد منهم غرقًا. حتى فكرة تجييش الجيش بعد موت كل الأبناء البكر وكل هذه المآسي تبدو غير منطقية!
يُضاف إلى ذلك كله النقاش اللاهوتي الذي أشار إليه المسلسل عرضًا: كيف يكون الإله عادلًا ورحيمًا ويعاقب شعبًا بكامله بجريرة حاكم متغطرس؟ وما ذنب كل الأبناء البكر؟ مع ملاحظة أنّ الآيات التسع القرآنية تجاهلت هذا العقاب الذي كان أشدّها قسوة! ولا يتسق كل هذا العقاب للمصريين مع الإشارة التوراتية التي شدّد عليها المسلسل حين تبرّع المصريون للعبرانيين قبل الخروج بالحلي والذهب والأواني! وإذا كان موسى ـ بنص التوراة ـ ينتمي إلى الجيل الرابع من العبرانيين بدءًا من النبي يوسف، فهذا لا يتسق إطلاقًا مع كلام الباحثين أنّهم عاشوا في مصر لأربعة قرون.
بطبيعة الحال، المسلسل يعالج سردية أسطورية وتاريخية ودينية، لا يمكن أن تحظى باتفاق تام، وهذا طبيعي، لكنه أيضًا لم يعرض نقاشًا حقيقيًا بشأنها، بل قمع معظم الآراء لتكريس المروية التوراتية فقط، ولم يخرج عنها إلّا في إشارات ثانوية مثل جعل وزير الفرعون باسم "هامان" وهي إشارة قرآنية، لكن في التوراة كان "هامان" وزيرًا فارسيًا، بينما منقذة ومربية موسى كانت بحسب القرآن امرأة فرعون، ويُقال اسمها "آسيا"، حسب التوراة كانت ابنة فرعون واسمها "بيتيا".