بعد سنوات من التأجيل والعقبات الرقابية، خرج إلى النور فيلم "الرحلة 404"، وتدور أحداثه حول "غادة" صاحبة الماضي المشين، والتي قرّرت التوبة والعيش في هدوء منذ سنوات، وترغب في تتويج توبتها برحلة لأداء فريضة الحج، لكن قبل سفرها بأيام تواجه والدتها حادثاً طارئاً يفرض عليها ضرورة تدبير مبلغ مالي، فتضطر إلى اللجوء إلى أشخاص ينتمون إلى ماضيها، فتقع تحت ضغوط لإخضاعها وإعادتها لحياة الخطيئة.
قصة الفيلم غير نمطية أو مستهلكة في السينما العربية، إذ تتركّز على "التوبة والغفران"، وجاء طرح هذه القضية الشائكة بذكاء وعمق بالغ بعيدًا من الخطاب الديني، بل عبر علاقة مباشرة بين الإنسان والله، حيث لا وسيط بينهما سوى النية الخالصة.
وعلى هامش العرض الخاص للفيلم، تحدثت منى زكي لـ"النهار العربي"، حول انطباعها الأول عن «غادة» عند قراءة السيناريو قائلة: "أعجبت بالنص جداً، وشعرت بالتوحّد والتعاطف معها، وطمحت لتمثيل هذا الفيلم منذ سنوات، فثمة معانٍ فلسفية كثيرة كامنة خلف هذه القصة، أتمنى وصولها للجمهور، وأن تصل رؤية المخرج هاني خليفة بشأن البطلة وحياتها وحاضرها ومستقبلها".
وحول كيفية التحضير لتفاصيل «غادة» سواءً النفسية أو الشكلية، خصوصاً أنّها تمر بتحولات أخلاقية، وبداخلها تناقضات كبيرة تؤثر على نفسيتها وحتى على طبيعة ملابسها وهيئتها الخارجية، أوضحت زكي قائلة: "أعددت للشخصية بمساعدة المخرج، فهو مميز في توجيهاته ويجيد إدارة الممثل، واستطاع مساعدتي في خروج انفعالات قد لا أستطيع التعبير عنها في لحظتها، فكانت توجيهاته ورؤيته هي الأساس، ومعظم التحضيرات كان له النصيب الوافر فيها، فلم يكن هناك مدرب تمثيل، وعلى مستوى الشكل كان هناك الستايليست مروة عبدالسميع، وتقرّر شكل الشخصية وملابسها بالاتفاق بين المخرج والستايليست وتوافقت مع رؤيتهما".
"الرحلة 404"... فكرة جريئة
الفكرة جريئة على طبيعة الأفلام السائدة في السينما المصرية، وعلى طبيعة منى زكي التي اعتادها الجمهور ويرفض خروجها منها بل قاومها، إذ نالها هجومه الشديد بسبب تمرّدها على الأدوار النمطية ومنها دورها في "أصحاب ولا أعز"، بسبب أحد المشاهد التي اعتبرها جمهورها جريئة.
لذا تضاف شخصية «غادة» إلى أدوار زكي المميزة، وتعزز نضجها الفني اللافت، فاختياراتها الأخيرة سواءً السينمائية أو التلفزيونية مثل"لعبة نيوتن"،"تحت الوصاية"،"أصحاب ولا أعز"، تتسمّ بالتنوع والتجديد والعمق، وإصرار على التمرّد على القوالب التقليدية التي حُوصرت فيها لسنوات، فينقلها كل دور لمساحة أرحب من رسوخ نجوميتها على الساحة العربية.
تجسّد زكي ضمن أحداث "الرحلة 404" دور بائعة هوى سابقة، وتخوض صراعًا داخليًا وتداهمها التساؤلات بشأن عدم قبول الله لتوبتها، وهل ما زال بداخلها الخطيئة والغواية، دون أن تملك الإجابة. هو فيلم إنساني يتعرّض لتجربة قد يخوضها أي إنسان بأشكال مختلفة، لكن يقع العبء الأكبر على النساء عندما يُخطئن.
وعلّقت زكي بقولها: "هي تركيبة لها علاقة بالعنوان الرئيسي، وهو خطيئة الإنسان ولجوئه إلى الله، والشكوك التي تتداخل في النفس حول تقبّل الله لهذه التوبة وللشخص أم لا؟ وهل سامحنا؟ هذه التساؤلات تدور بداخلنا جميعًا كبشر بغض النظر عن اختلاف الأخطاء، لكن يظل التساؤل ملازمًا لنا".
وأضافت: "يحدث الخطأ بمختلف أشكاله في المجتمع للنساء والرجال، لكن النساء يقعن ضحايا لضغوط مجتمعية أكبر؛ لكونهن نساء فقط، وهو ما أوضحه الفيلم، فالبطلة تقع تحت ضغوطات جمّة ومنها النفسية، لمجرد أنّ عائلتها لا تمنحها الثقة، ما جعلها تلجأ لآخرين بحثًا عن تلك الثقة المفقودة، والشعور أنّها شخصية مقبولة، وكذلك الطموح المادي الزائد عن الحد، يصنع ذلك أحيانًا، فيجعل الغاية تبرّر الوسيلة".
تجسّد زكي دور "فتاة ليل" سابقة، وقد يشكّل اختيارها صدمة أو على الأقل مفاجأة لجمهورها، ومع ذلك فقد كانت الاختيار الأول للمخرج هاني خليفة، الذي فسّر ذلك لـ"النهار العربي" بقوله :" كان هذا مغريًا بالنسبة لكلينا أنا ومنى، نخوض به تجربة مختلفة بدور لم تؤدّه زكي مسبقًا، فكنا نجرّب ونكتشف ما يمكن عمله، تاركين الحكم في النهاية للجمهور". وأضاف: "عندما قرأت سيناريو محمد رجاء منذ سنوات أعجبت به للغاية، واستشعرته غير تقليدي، إذ كنت أبحث عن قصة مختلفة لا تشابه الأفلام الموجودة، وتاريخ السينما يزخر بأفلام ليس لها شبيه مثل أعمال صلاح أبوسيف أو هنري بركات".
وتابع قائلاً :"أحبذ مبدأ "الغفران" للخطيئة والتسامح في عملي عمومًا، إذ أتصور أننا نصنع الفن كي نسمو ونتسامح ونقدّر عيوبنا، كما ناقش الفيلم قضية أخرى تتعلق بصعوبة الحياة الدنيا والاختبارات التي يضعنا فيها القدر، وهي جزء من اختبار الدنيا، ومن هنا يأتي عدم تشابه هذه القصة مع أي قصة في فيلم آخر".
عنوان الفيلم
يبدو أنّ اختيار عنوان الفيلم الرحلة "404" ليس عبثيًا أو مصادفة، فالرقم يرمز إلى الخطأ 404 أو error 404 ، وهو أحد أكثر الأخطاء شيوعًا على مواقع الانترنت، يشير إلى أنّه لا يمكن العثور على الصفحة التي تبحث عنها، وأصبح هذا الرقم يُستخدم فى الحياة للدلالة إلى الوقوع في الخطأ، وجاء كعنوان الفيلم للدلالة والإيحاء أنّ ثمة خطأ أو مشكلة في هذه الرحلة، أو الوجهة غير صائبة.
ضيوف الشرف... وماضي بلا فلاش باك
بطولة الفيلم نسائية، فمنى زكي ليست بطلة مشاركة أو سنيدة ضمن الفيلم للنجم الرجل، بل هي البطلة الرئيسة، وهو ما تفتقده الأفلام المصرية منذ فترة، لكن ضمّ الفيلم مجموعة كبيرة من نجوم الصف الأول كضيوف شرف مثل محمد فراج، محمد ممدوح، محمد علاء، شيرين رضا وخالد الصاوي، بأدوار صغيرة لكنها محورية ومؤثرة ضمن حبكة العمل، وتمثل كل شخصية مفتاحًا لفهم جزء من تاريخ «غادة»، وأسباب اندفاعها إلى الخطيئة.
فقدّم الفيلم تاريخ البطلة في سرد مشوق للماضي دون الرجوع للفلاش باك التقليدي، فجاء التعرّف على الشخصية عبر السرد الطبيعي، فيتكشف ماضيها الموصوم تدريجيًا، وكان اختيار مؤلف الفيلم محمد رجاء لهذه الطريقة ذكيًا وجذابًا، إذ لا يعتبر اللجوء للفلاش باك هو الاختيار الأمثل أحيانًا على مستوى التكنيك، وقد يدلل اللجوء إليه على عدم القدرة على الحكي أحيانًا، فيلجأ المؤلف إلى قطع الزمن ليستطيع أن يحكي حكايات الماضي، لكن التميز أنّه حكي كل الماضي في الزمن الآني، وهي مهمّة شاقة والاختيار الأصعب.
عقبات إنتاجية ورقابية
عرض المخرج هاني خليفة بطولة الفيلم على منى زكي في العام 2013، التي تحمست له، لكن تعرّض المشروع للعرقلة والتأجيل، إذ كان هناك إحجام من بعض المنتجين عن إنتاجه رغم إعجابهم بالقصة بسبب فكرته الجريئة، وظل الفيلم لسنوات حبيس الأدراج حتى تحمّس له المنتج محمد حفظي.
وحول الأسباب التي شجعته على إنتاج هذا الفيلم، قال حفظي لـ"النهار العربي": "لأنّها قصة فريدة وجريئة للغاية، وهي رحلة إيجابية تمر عبرها بمصاعب كبيرة حتى تصل إلى القاع، ثم تنتهي نهاية فيها قدر كبير من الأمل، وهو فيلم صادق كُتب باحترافية ويضمّ عناصر مشجعة على خوض غمار هذه التجربة، لذا كان من الطبيعي أن اهتم بانتاجه".
نهاية غير منطقية
استغرق تصوير الفيلم نحو أكثر من ثلاث سنوات منذ بداية تصويره، وشهد توقفات عدة، وهي رحلة يراها حفظي شاقة وممتعة في آن، بقوله: "بدأنا التحضير والتصوير في 2021، لكن المراحل اللاحقة وبينها المونتاج والنقاش مع الرقابة هي ما عطّل طرح الفيلم، وبقدر ما كانت رحلة صعبة؛ لكننا لم نيأس أو نضحّي بالفيلم، وتمسكنا بالرؤية الخاصة بالفيلم والمؤلف والمخرج الذين استطاعوا الحفاظ عليها حتى تخرج بهذا الشكل".
قدّم الفيلم قضية "التوبة" والتجربة البشرية من زاوية ومنظور جديد وعميق، وتأرجح الإنسان فيها، وأنّه اختبار صعب وطريق التوبة ليس ممهدًا، وذلك بشكل غير مباشر بعيدًا من الوعظ أو ادّعاء الفضيلة. كما يحمل الفيلم بين ثناياه فكرة مهمّة وهي أنّ البشر ليسوا بالضرورة إما أشراراً أو أخياراً، وليسوا ملائكة أيضًا، فالنفس البشرية تحمل الجانبين ولا ينبغي الحكم المسبق دون النظر للظروف المحيطة، لكن جاءت نهايته غير منطقية، واختل الإيقاع الدرامي بشكل مفاجئ عبر حلول مفاجئة لكل مشكلات وعقد بطلة الفيلم بشكل غير مبرر أو منطقي، وغير معلوم إذا كان ذلك له علاقة بتدخّلات الجهات الرقابية من عدمه.