لا تزال مسألة المرأة في الفكر العربي المعاصر في موقع إشكالي ملتبس، بين التعامل معها من خلال المنظومة الحداثية بكل ما تعنيه من حقوق إنسان بالمفهوم الحداثي، ومن دون أي تمييز مع الرجل، أي بوصفها كائناً أساسياً ومركزياً في الأسرة والمجتمع والوجود.
أو ربما بالنظر إليها من خلال جسدها باعتباره "عورة " ومثاراً للفتنة، وبالتالي عزلها بشتى الأساليب والأشكال وإقصاؤها وتهميشها. وإذا كانت هذه المسألة قد طُرحت مع رفاعة الطهطاوي وبطرس البستاني وفرنسيس ومريانا مرّاش وقاسم أمين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومع نظيرة زين الدين في عشرينيات القرن الماضي، واستمرّ طرحها إلى هذا القرن مع نوال السعداوي وهشام شرابي وفاطمة المرنيسي ورجاء بن سلامة، فإنّ طرحها من جديد يستدعيه من جهة خطاب الأصوليين الذين يريدون حصرها في المنزل وإحاطتها بما لا يطاق من القيود، ومن جهة أخرى الخطاب الإعلامي المعاصر الذي حوّلها سلعةً إعلانية، مسقطاً دورها وإسهاماتها السياسية والاجتماعية والإنسانية.
وما جرى في القرنين الماضيين في العالم العربي، كان بصورة عامة، على رغم التقدم الملحوظ في أوضاع المرأة العربية، مخيباً لآمال النهضويين التنويريين العرب، بحيث استمرت الممارسات المجحفة والظالمة بحق المرأة على كل المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية. وهي لا تزال تعاني، معاناة فادحة، الدونية والتمييز والعنف ومصادرة الحقوق، ولم يُعترف بها إلى الآن، بوصفها شريكاً أساسياً في صناعة الحياة، ونداً للرجل، لها ما له من حقوق، وعليها ما عليه من واجبات، والتعامل معها بالتالي، ككائن مدني وسياسي، لا انتقاص من انتمائه المواطني والمدني.
إنّ غلاة الأصوليين يجهدون لإنكار قضية المرأة العربية، باعتبار ذلك مؤامرة افتعلها الغرب للنيل من خلالها من الخصوصية الثقافية العربية والإسلامية والإساءة إليها انطلاقاً من رؤية استشراقية استعلائية متحيزة، إلا أن التقارير الدولية والعربية الصادرة منذ ثمانينات القرن العشرين إلى اليوم تشير بصورة مربكة إلى تردي حال المرأة العربية، ليس قياساً إلى الغرب فحسب، بل إلى الدول النامية كذلك، رغم المؤتمرات الداعية إلى إعادة التفكير في علاقات الجنسين، وفي مشاركة المرأة وتحقيق العدالة لمصلحتها. فوفقاً لتقارير التنمية البشرية وتقارير التنمية الإنسانية العربية، تجيء الدول العربية في مراتب متأخرة جداً على مقياس التمكين الجنساني، حيث تبدي المنطقة العربية واحداً من أعلى معدلات أمية الإناث.
وتبقى المشاركة الاقتصادية للمرأة العربية الأقل في العالم، بينما لا تزال مشاركتها في الحياة السياسية قاصرة ومحدودة على الرغم من منحها حق التصويت في الانتخابات النيابية في فترات تاريخية متفاوتة: لبنان 1926، سوريا 1949، السودان 1953، مصر 1956، المغرب 1963، العراق 1980، تونس 1985. فالمواقع التي تحتلها المرأة هامشية، إن في المجالس النيابية والحكومات أو في الأحزاب السياسية، ودورها في صنع القرار السياسي معدوم أو يكاد، حتى أن الحقوق السياسية للمرأة ليست بالنسبة لكثير من الحكام العرب إلا واجهة ديموقراطية مخادعة تتستر بها أنظمتهم الاستبدادية المتخلفة.
تعاني المرأة العربية التمييز في الإرث والعمل والأجر، إذ تنطوي قوانين عديدة في البلدان العربية على أحكام تناقض المساواة، وغالباً ما تجنح إلى تشريع التمييز بين الرجال والنساء، تاركةً للرجل الموقع الأول والكلمة الفصل في الحياة الأسرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وفي حالات كثيرة تُحرم المرأة العربية من حقها بالإرث بموجب أعراف وتقاليد ظالمة، وتتقاضى عن العمل ذاته أجراً دون أجر الرجل، وقد فاقم في وضعها اندفاع الدول العربية إلى الأخذ بمبادئ الخصخصة، ما رتّب بالتالي أعباءً جسيمة على النساء الفقيرات اللواتي اضطررن إلى العمل في ظروف بائسة وفظيعة من دون أن يحققن عائداً له قيمته، ومن دون أن يحظين بضمانات اجتماعية وإنسانية تقيهن المخاطر الصحية والمهنية، ما يذكّر بعبودية القرون الوسطى من جديد.
فضلاً عن ذلك تتعرّض المرأة العربية للعنف بأشكال شتى، وقد ذكرت تقارير دولية أن أكثر من 46 في المئة من النساء اليمنيات تعرّضن للضرب وأن أكثر من 54 منهن تعرّضن للإيذاء الجسدي وأكثر من 17 في المئة للعنف الجنسي، كما ذكرت أيضاً أن 7 من كل 10 نساء مغربيات ضحايا للعنف الأسري، فيما 35 في المئة من الزوجات المصريات يتعرّضن للضرب حتى في أثناء الحمل.
ومن محن المرأة العربية تعرضها للختان وحرمانها من حياتها الجنسية السوية في بعض الأقطار العربية، وشيوع "جرائم الشرف" على نطاق واسع في بعض الأقطار في ظل تواطؤ القضاء وانحيازه الذكوري.
مع هذه الأوضاع الجائرة والظالمة للمرأة العربية لا يمكن الحديث عن ديموقراطية عربية سوية، لأن مجتمعاً يمارس القهر على نصف عناصره وينتقص من حقوقهم المواطنية والمدنية والإنسانية، هو مجتمع يعاني خللاً جسيماً في بنيته الأساسية، ولا ينتج سوى تنمية شوهاء معوقة، ولا يمكن أن يتقدّم باتجاه حداثة حقيقية، سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو إنسانية.
إن تغييراً حقيقياً وجذرياً في واقع المرأة العربية، هو المقدمة التي لا بد منها لأي حداثة عربية حقيقية. تغيير يجب أن يذهب إلى الأصول، وأن يطاول الروح والأعراف والقيم والمفاهيم.
لكنّ ذلك يستدعي ثورة ثقافية تزلزل العقل الأبوي في العمق وتطيح أسسه التاريخية ومنطقه المتخلف، فهل هذا ممكن التفكير فيه في عالم عربي لم يتجاوز بعد عقل القرون الوسطى وبنيته المفاهيمية، أكثر من ثلثي نسائه أميات وأكثر من ثلث سكانه تحت خط الفقر، وبنيته الاقتصادية تابعة، وبنيته السياسية جامدة متكلسة؟
إن التغيير الذي ندعو إليه والذي يتجلى في بعض جوانبه في الغرب، لم يتشكّل إلا في إطار ثورة حداثية شاملة، اقتصادية اجتماعية سياسية فكرية، ولم ينبعث مرة واحدة ومن دون مقدمات كما يطرح الخطاب النسوي الراديكالي في الغرب، ويتردد في بعض الخطابات النسوية عندنا.
فالتنوير لا يمكن استيلاده بعملية قيصرية في بيئة غير مؤاتية، والأولى أن نمهد طريقه من خلال إصلاح تدريجي يطاول كل جوانب الوجود الاجتماعي.
إن الاقتداء بالخطاب النسوي في الغرب وتبني أطروحاته الداعية إلى المساواة الكاملة بين المرأة والرجل، ومساءلة الخطاب الديني ومساجلته في مسائل الإرث والحجاب وتعدد الزوجات وطرح البدائل العلمانية من دون مراجعة، بما يشكّل تقويضاً تاماً للمفاهيم البنيوية للمجتمع الأبوي، يستتبع ردّ فعل عنيفاً ليس في مصلحة المرأة العربية وتحررها وتقدمها.
فالأجدى البدء بمحو أمية النساء العربيات وتأكيد حقوقهن في التعليم والعمل واختيار الزوج وحمايتهن من العنف بكل أشكاله وصوره، لا سيما أنهن في غالبيتهن أميات مقموعات مبعدات من المشاركة في الحياة الاقتصادية والسياسية. بل أن نطرح عليهن مساءلة المقدّس ونقد الخطاب الديني، الأمر الذي ليس في مقدورهن وليس متاحاً للمرأة، حتى في الغرب الليبرالي. ومن هنا قد يبدأ في رأينا التغيير الجذري والمواجهة الفعلية مع التخلف العربي بكل وجوهه. عندها يمكن أن يؤمل بنهضة حقيقية للمجتمع ومعها خلاص المرأة العربية من محنتها التاريخية.