لا يمكن أن ننكر الدور الترفيهي للدراما، ولا أن نتعدّى أهميته. لكنّ الترفيه لا يعني بالضرورة إماطة اللّثام على القضايا الأساسية، بل الدراما التلفزيونية هي جزء من المنظومة الاتصالية والإعلامية، لما لها من المسؤولية المجتمعيّة المثبتة عبر مسارها التاريخي الطويل. وتتمثل المسؤولية غالباً في تشكيل اتجاهات الجمهور نحو قضية ما وتنمية الوعي للتعاطي مع الأزمة.
إنّ الدراما انتماء لقضية ما أو مجموعة من القضايا يخضع ترتيبها لمنطق الأولويات. وقد تختلف هذه الأولويات من مجتمع لآخر، ولكن أحياناً قد توحّدها الأزمات.
ولأنّ الواقع الفلسطيني قد فرض نفسه على العالم خلال الستة أشهر الماضية، فإنّ سؤالنا من هذا المنطلق: هل حازت الفلسطينية على اهتمام الدراما العربية أم أنّ هذه الدّراما قد زادت من تعميق الفجوة والقطيعة بين الجمهور والقضية؟
وصل عدد الأعمال الدرامية التلفزيونية خلال الموسم الرمضاني الى نحو 100 عمل درامي وأكثر، تراوحت مواضيعها بين الاجتماعي (الطلاق، تعدّد الزوجات، الخيانة ، العنف، القتل) والكوميدي، وتعدّدت الأجناس الدرامية.
ومع ذلك، لم نلحظ ولو عملاً واحداً أو حتى إشارة أو رمزاً ما إلى القضية الفلسطينية، ما عدا المسلسل المصري "مليحة" بطولة ميرفت أمين. فهل الفن يعتزل دوره في المقاومة وقت الأزمة؟
وهذا السؤال يفرض نفسه خلال هذه المرحلة، حيث يعيش التلفزيون اغتراباً عن الواقع. تفتح مواقع التواصل الاجتماعي وتشاهد النشرات الإخبارية فترى ما يحبس الأنفاس لقسوة المشاهد. ولكن حين تفتح الأعمال الدرامية العربية تنسى من دون أن تشعر بذلك، ما يجري وراء تلك الأسوار بالأطفال، من الجوع والتقتيل والعنف بشتى أنواعه.
صحيح أنّ الدراما هي نتاج بيئتها، ولكن نعتقد أنّ هناك بيئة أخرى لا بدّ أخذها في الاعتبار وهي البيئة العالميّة، وذلك لسببين: أولا لأنّ ما يُعرف بالقرية الكونية وعولمة الاتصال جعلا من الشعوب أكثر انفتاحاً على مشاغل بعضها بعضاً، ومن ثم لا يمكن التغاضي عن القضايا العامة التي توحّد بين الجمهور الحقيقي والجمهور الافتراضي وتقرّب منه القضايا الدولية. وهناك ضرورة الى إعادة تعريف مفهوم إعلام القرب حسب المقاييس الجديدة التي تفرضها البيئة الرقمية.
لمّا قامت الحرب على غزّة في السابع من أكتوبر 2023، لاحظنا تذمّراً كبيراً من أغلبيّة العامّة بسبب النخبة التي بدت بحسب تعابيرهم متقاعسة في الدفاع عن القضية، بإعتماد وسائطها الفكرية والفنية الإبداعية. وكنّا نعتقد آنذاك أنّه تهويل ومبالغة من روّاد مواقع التواصل الاجتماعي لا أكثر، وقد تكون النخبة في حالة تريث ليس إلّا، وتستعد لإنتاجات إبداعية يعبّرون من خلالها عن مواقفهم.
لكنّ مشاهد الأطفال في غزّة وهم يلهثون ويتهافتون على لقيمة تُسكت جوعهم، لم تترك تأثيرها على ما نشاهده درامياً وتلفزيونياً. وما هو أكثر بشاعة من تجويع وتقتيل واغتصاب طفل؟
العنف قد يكون سمة المسلسلات الجديدة، لكنه عنف من نوع آخر. فأنت حين تشاهد مسلسل "نعمة الأفوكاتو" تعثر على محامية تتلذّذ بالانتقام، بل وتبتدع أفكاراً لذلك، فتفهم أنّنا في مجتمع الغاب، يشرّع لتدمير الدولة والقانون. وتجد تتمّة لتغوّل العنف في الدراما، فتدرك أنّه لا يمكن لكاتب هذا السيناريو أن يكون لديه تمثّل أو تصوّر ما عمّا يجري حوله، وحتى تمثّل دوره في عدم تضخيم وتغذية الوحش الذي بداخل الإنسان أو الشرّ، بل ولا يجب على السيناريست أن ينتج لنا إنسان الشرّ، الذي ظلّت حنة ارندت تقاومه في مسيرتها الفكريّة الفلسفية السياسية.
الجمهور تفاعل مع الأعمال الدرامية المغتربة عن واقع القضية الفلسطينية، فكانت مواقع التواصل خلال شهر رمضان غارقة بصور الرشيقة نادين نجيم في مسلسلها 2024، وبصور الوسيم تيم حسن من مسلسله "تاج" وبالأحاديث والفيديوهات من مسلسل "ع أمل" لماغي بوغصن ومسلسلات لباسل خياط وكارمن بصيبص وعابد فهد، ومن مصر أحمد السقا وطارق لطفي في "العتاولة" ومسلسل "الحشاشين" لكريم عبد العزيز الذي طال انتظاره، ومن الخليج مسلسل "زوجة واحدة لا تكفي".
أما في تونس، غرقت الدراما في المحلية، وكأننا في عزلة فكرية وفنية وإبداعية، فذهبت أعمالنا نحو قضايا مفتعلة حتى في علاقة بخصوصيّة المجتمع التونسي. فنجد مسلسل "الفلوجة" في جزئه الثاني يركّز على قضية الناشئة في المدارس. ونعثر ايضاً على المسلسل الاجتماعي "رقوج" وبعض الأعمال الكوميدية التي تجنح صوب الخيال.
هذا ما يجعلنا نفكّر أنّه نوع من الإلهاء المتعمّد بمفهوم نعوم تشومسكي، حين طرح أساليب التلاعب بالعقول في التلفزيون. بعبارة أخرى، يكفي أن تقضي ساعات طويلة وأنت تشاهد الأعمال الدرامية حتى تنسى كلّية أنّ في الضفة الأخرى الآن وهنا، يوجد طفل يجوع طفل يموت طفل يُقهر.
قد يتعلّل بعضهم أنّه لم يتوقع استمرار الحرب إلى حدّ شهر رمضان، وقد نتّفق معهم في ذلك، ولكن هل كان يتوقّع هؤلاء المنتجون والمسهمون في الأعمال الدرامية أنّ القضية الفلسطينية ستحلحل حتى لو افترضنا أنّ الحرب انتهت؟ بمعنى آخر، حتى لو افترضنا توقّف الحرب على غزة فإنّ القضية قائمة ومتجّذرة في التاريخ. ثم هل ما حصل ويحصل دائماً في الحرب لا يفرض على النخبة في الدراما تقديم عمل فيه رؤية وتصوّر عمّا يحصل، ويذكّر بالقضية أو يوجّه ميولات الجمهور نحو الاستمرارية في الالتزام بالقضية الفلسطية بعيدا من الموسميّة؟
كيف لمبدع وهو يكتب سيناريو أن يتناسى صرخات تلك الأم التي تقول: "ماتوا الولاد جوعانين"... هل تُنسى قصّة الشهيد الطفل صاحب الشعر الأشقر الكيرلي؟
الدراما الواقعية موجودة في صور نراها يومياً تتفجّر كبركان أمام أعيننا. فأي حاجة لابتداع الشرّ والذهاب إلى التخييلي؟ ألم يكن الأجدر إعادة انتاج الواقع، فربما نجحت الدراما في إيصال رسائل دغدغت الضمائر؟ كيف لا يخطر ببال أيّ سيناريست أو كاتب أعمال درامية توظيف قلمه خدمة للقضية؟
الدراما في الموسم الرّمضاني 2024 خدّرت المتفرّج وحوّلت القضية الإنسانية إلى قضية ثانوية، حتى صار ظهور بطلة "الخائن" مرام علي وبطلة "كريستال" باميلا الكيك في برنامج واحد مع رامز جلال، أكثر أهميّة من طفل يموت تحت الأنقاض ويحصد نسب عالية من المشاهدات.
الأمر ليس مقتصراً فقط على برامج شهر رمضان، وإنما ما زالت الحرب الى الآن، وما زالت البرامج التلفزيونية في مكان آخر. يذكّرني ذلك باليساري باسكال بونيفاس وكتابه الشهير "المثقفون المزيفون"، فقد استعرض في هذا الكتاب أساليب المثقفين في التضليل والتلاعب بالعقول وإيجاد الححج التي تبدو عقلانية في ظاهرها ولكنها مبنية على توجيه القضية. ذكّرني أيضاً بكتاب "المثقفون الخائنون" لادوارد سعيد.
لقد كشف الفضاء العام الافتراضي، أنّ أزمة الأمة العربية في جزء كبير من مثقفيها الذين ظلّوا لعشريات يتعاطون مع القضية الفلسطينية فقط كملفّ تمويلات لبعض الأنشطة واستثمارها في business show، والمصطلح لباسكال بونيفاس.