نشأت موسيقى الجاز "السعادة الغامرة" في المجتمعات الإفريقية- الأميركية عام 1917، في أحياء مدينة نيو أورليانز الفقيرة والمُعدمة، لتكون شكلاً من أشكال التعبير الخاص والحُرّ للطبقات الأكثر تهميشاً -تحديداً- من العرق الإفريقي بوجه سائر أشكال البطش والإقصاء المُمارس ضدّهم من "البيض". وكجزء من التجربة الثقافية الأميركية- الإفريقية، استخدم الفنانون الأميركيون من أصل إفريقي الفن لتقديم جمالية أميركية- إفريقية أصيلة، ويُصنّفها نقاد الموسيقى في الولايات المتحدة كموسيقى كلاسيكية، مهّدت لاحقاً لأنماط فنية أكثر حداثة كالراب وسواه.
يوضح الكاتب الصحافي الأميركي لانغستون هيوز ( 1967-1901) في مقالته القصيرة عام 1926 المعنونة بـ"الفنان الزنجي والجبل العنصري"، الفكرة وراء الاستيلاء على موسيقى الجاز في عمله: "موسيقى الجاز بالنسبة لي هي أحد التعبيرات المتأصّلة في حياة الزنوج في أميركا؛ نبض الطبل الأبدي في الروح الزنجية – طبل التمرّد على التعب في عالم أبيض […]؛ من الفرح والضحك، والألم يبتلع في ابتسامة".
يحتفل العالم في الـ30 من إبريل/ نيسان من كل عام باليوم العالمي لموسيقى الجاز كجزء من الإرث الموسيقي والفني االعالمي، ولأهمية الفن باعتباره صوتاً للحرّية. ارتبطت موسيقى الجاز بعمق بالنتاج الأدبي -الأميركي بخاصة- لكتّاب وأدباء عشقوا هذا النمط الموسيقي المُتحرّر.
فَمَن أبرز هؤلاء؟ وما هي أهم الأعمال الأدبية التي تناولت موضوع الجاز كعنصر فني أثير؟ وما هي أهم دلالات هذا الاستلهام الموسيقي في الأدب؟
موسيقى مناهضة للبرجوازية
تعود جذور موسيقى الجاز إلى المدينة: كانت نيو أورليانز وشيكاغو ونيويورك وكانساس سيتي ولوس أنجلوس وفيلادلفيا وديترويت في أوقات مختلفة، حاضنات رئيسية لموسيقى الجاز.
كانت موسيقى الجاز دائماً موسيقى حضرية، مرتبطة بالحياة الليلية الحضرية، ومناطق الرذيلة، وقاعات الرقص، وأحياء المدينة الداخلية، ومسارح الحفلات الموسيقية.
لا يتزامن تاريخها مع التحضّر في أميركا نفسها فحسب، بل يتزامن بشكل خاص مع التحضّر للأميركيين من أصل إفريقي، والذي يعود تاريخه إلى حركتهم من الجنوب بدءاً من بداية الحرب العالمية الأولى، حيث ظهرت موسيقى الجاز على الساحة مع وصول النهضة الزنجية الجديدة في الوقت نفسه، والمعروفة أيضاً باسم "نهضة هارلم"، وهي الفترة التي امتدت من عام 1919 إلى عام 1939.
تميّزت تلك الفترة في حياة الأميركيين من أصل إفريقي بمحاولة واعية من قبل القادة السود، خلال فترة من الهياج الفني والسياسي الواسع بين الأميركيين من أصل إفريقي، مثل ويب دو بوا ، وجيمس ويلدون جونسون، وتشارلز س. جونسون، وآلان لوك، لإنشاء مدرسة للأدب الأسود، لأنّهم اعتقدوا اعتقاداً راسخاً أنّه لكي يتمكن السود من تحقيق العظمة كشعب، عليهم إنتاج فن عظيم.
كانت موسيقى الجاز حركة ثقافية، تؤثر بشكل خاص على الشباب في اللباس واللغة والموقف. لقد كان، في هذا الصدد، نموذجاً أولياً لكل من موسيقى الروك أند رول والهيب هوب، لأنّه كان مكروهاً بشدة من قبل البرجوازية. ألهمت موسيقى الجاز الكتّاب والفنانين التشكيليين، والمؤسسة الموسيقية اليوم.
عصر الجاز
ارتبطت موسيقى الجاز بالجنس بين الأعراق (كانت العديد من نوادي الجاز الليلية مفتوحة للرواد من أي عرق) ومع المخدرات غير المشروعة، في الأيام الأولى، الماريجوانا، وخلال الخمسينات من القرن الماضي، مع الهيرويين. كثيراً ما كان الفنانون البصريون والكتّاب يُلهمون موسيقى الجاز، حيث يعتقد كثيرون أنّ إحساسها بالعفوية، وتنافرها، وموقفها المناهض للبرجوازية يجسّد جوانب مقنعة من الحداثة.
تُعتبر رواية "غاتسبي العظيم"، من أشهر الأعمال الأدبية والإبداعية الأميركية، ألّفها الكاتب فرنسيس سكوت فيتزجيرالد، ونُشرت للمرّة الأولى في عام 1925، وهي تُعدّ من كلاسيكيات الأدب الأميركي، وتنبع أهمية الرواية كونها من الأعمال التي تغوص في أعماق المجتمع، وتمارس فعل الرصد والتحليل بأسلوب شيّق، يجد فيه القارئ المتعة، ويلمس المهارة الإبداعية والأسلوبية لذلك الكاتب الكبير الذي نجح في صنع عمل ينتمي إلى المجتمع الأميركي بمختلف طبقاته الاجتماعية، فهو يتجول في أزقة الفقراء وشوارعهم ومقاهيهم الشعبية، ويتسرّب إلى أسوار الفئات المرفّهة الغنية وأماكن ملتقياتهم، ليحدّث القارئ عن كيف كان يعيش المجتمع الأميركي وشواغله في مرحلة تاريخية معينة.
واعتُبرت الرواية إحدى أهم الوثائق الأدبية التي تناولت وأرخت لعقد العشرينات الهادرة في الولايات المتحدة الأميركية، وهي فترة مفصلية شكّلت نقطة تحوّل في حياة الأميركيين، أخلاقياً ومادياً واجتماعياً، أطلق عليها فيتزجيرالد اسم "عصر الجاز"، فأضحى المسمّى في ما بعد المصطلح المعتمد في الدوائر الأدبية.
عبّر فرانك مارشال ديفيس (1905-1987، وهو شاعر وصحافي من شيكاغو، عن ولعه بموسيقى الجاز في كتاباته. كذلك ظهرت موسيقى الجاز في روايتين للكاتب كلود ماكاي (1889-1948) "موطن هارلم" (1928) و"بانجو" (1929)، والتي تدور حول بحار متجول وهو أيضاً موسيقي، وعازف بانجو، وهي آلة لا يزال يعزف عليها الأميركيون من أصل إفريقي في الولايات المتحدة.
"جاز الرجل الخفي"
يأتي التأثير الأدبي الكبير لموسيقى الجاز بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أصبحت موسيقى الجاز أكثر بروزًا بـ"الأحرف السوداء"، عندما غدت الموسيقى أكثر وعيًا بذاتها بأنّها "فنية" مصمّمة للاستماع وليس للرقص. يعتبر كثيرون رواية رالف أليسون الصادرة سنة (1952)، بعنوان "الرجل الخفي" والحائزة على جائزة الكتاب الوطني الأميركي، واحدة من أنجح روايات "الجاز" المكتوبة على الإطلاق، على الرغم من أنّ الكتاب لا يدور حول موسيقي ولا تظهر فيه الموسيقى. حيث يعتقد معظم النقاد أنّ الرواية تشبه موسيقى الجاز في بنيتها التجريبية، وحس الارتجال الذي يوحي به نثر الرواية، ولا سيما الطبيعة الارتجالية المتزايدة لخطابات "الرجل الخفي"، والطريقة الغريبة بعض الشيء وغير المنتظمة التي يستخدمها الكاتب.
على عكس معظم الكتّاب السود، كان إليسون يعرّف الموسيقى من الناحية الفنية. لقد شعر أيضاً أنّ الموسيقى كانت أساسية لفهم العرق في أميركا: "إنّ الموسيقى والرقصات التي يؤديها الأميركيون تتحدّد بشكل كبير بالأسلوب الأميركي الزنجي، والشعور الأميركي الزنجي بالأناقة، والشعور الأميركي الزنجي بما يجب أن تكون عليه التجربة الأميركية. من خلال ما يشعر به الزنوج حول الطريقة التي يجب أن يتحرّك بها الأميركي، يجب أن يعبّر عن نفسه. لكنه فهم الموسيقى أيضًا، وبخاصة الموسيقى السوداء".
وباعتبارها شيئاً مجازياً وتاريخياً وثقافياً بنفس القدر. ويتجلّى هذا في مقالاته عن موسيقى الجاز مثل "العيش مع الموسيقى"، و"قصة تشارلي كريستيان"، و"عن الطيور ومراقبة الطيور والجاز" والتي تمّ جمعها في مجلد مقالاته الصادر عام 1964 تحت عنوان "الظل والفعل".
الموسيقى كموقف إنساني
يأتي تسجيل لويس أرمسترونغ لـ "ماذا فعلت لأكون أسود وأزرق جداً" بشكل ملحوظ في بداية الرجل الخفي وهو، في بعض النواحي، أحد الموضوعات الرئيسة في الرواية؛ والموضوع الآخر هو كيف أنّ الزنجي هو محور رئيسي في الرواية. شخصية وممثل في الحياة الثقافية الأميركية، إنّ الأميركي الأسود هو بالفعل أميركي بـ"المعنى الحيوي".
المشهد الذي يستمع فيه بطل الرواية لأرمسترونغ، وهو يغني هذه الأغنية، ينقل ذلك بشكل رمزي وهو يأكل آيس كريم الفانيليا (الأبيض) المنقوع في سلو جين (الأحمر). بينما تعزف موسيقى البلوز على الفونوغراف الخاص به، يؤكّد هذا المشهد أيضاً على مدى أهمية إنشاء الفن الأميركي- الإفريقي في عمل إليسون أثناء تأليف روايته.
الروايات الأخرى التي تتناول حياة موسيقيي الجاز بشكل مباشر، والتي ظهرت بعد سنوات قليلة من رواية الرجل الخفي هي "أغنية الليل" لجون أ. ويليامز (1961)، والتي استندت بشكل فضفاض إلى حياة عازف الساكسفون تشارلي باركر (في عام 1967 تمّ إنتاج نسخة فيلم بعنوان Sweet Love، من بطولة ديك غريغوري) ووليام ملفين كيلي " قطرة من الصبر" ، تتميز كلتا الروايتين بشكل بارز بالنظرة الرومانسية للعلاقة بين الأعراق من الموسيقيين الذكور السود والنساء البيض.
ونصل أخيراً للشاعر والرسام تيد جوانز (1928-2003) أيضاً إلى الساحة في هذا الوقت، وقضى حياته المهنية بأكملها. كتابة قصائد عن موسيقى الجاز أو تلك التي تقلّد عزف الجاز. أشهر قصائده في موسيقى الجاز هي "الجاز ديني". يقول فيها
"الجاز هو ديني
وهو وحده الذي أحفر فيه
نوادي الجاز هي دور عبادتي
وأحياناً
قاعات الحفلات الموسيقية
ولكن بعض الأماكن المقدّسة
تجارية للغاية (مثل الكنائس)
لذلك لا أحفر الخطب هناك".