النهار

رحيل صاحب "ثلاثيّة نيويورك"... الصّدفة التي أنقذت بول أوستر صارت ميزة كتاباته!
هناء عليان
المصدر: النهار العربي
رحيل صاحب "ثلاثيّة نيويورك"... الصّدفة التي أنقذت بول أوستر صارت ميزة كتاباته!
بول أوستر
A+   A-
متأثراً بمضاعفات سرطان الرئة، رحل الكاتب الأميركي بول أوستر، صاحب "ثلاثية نيويورك" الشهيرة، والذي اشتهر في الثمانينات بإحياء الروايات السوداء ليصبح واحداً من كتّاب نيويورك الأكثر تميزاً في جيله، عن عمر ناهز 77 عاماً.
إلى جانب نتاجه الغزير والمميز في آن، لطالما لُقّب أوستر، المعروف بكاريزمته الطاغية وعينيه البارزتين كنجوم السينما، بالـ"نجم الأدبي الساحر"، حتى أن البعض ذهب إلى حد وصفه بالبطل الخارق في عالم الأدب، كونه ابتكر أسلوباً متفرداً في الكتابة يأٍسر القراء من الصفحات الأولى للرواية. بل إنّ أحد النقاد وصف صوته السردي بأنه "منوم مثل صوت البحّار القديم. ما إن تبدأ بقراءة أحد كتبه، وبحلول الصفحة الثانية، تجد أنك لن تختار سوى الاستماع إليه حتى النهاية".
واللافت أن أوستر اختار العديد من أبطال رواياته ليكونوا هم أنفسهم روائيين، حتى أنه اعتمد في أعماله على رواياته السابقة كمرجع ذاتي، بحيث عادة ما تظهر شخصيات من رواياته المبكرة مرة جديدة في روايات لاحقة.
 
 
تعلّقه بالقلم
وُلد أوستر في نيوارك، نيوجيرسي، عام 1947. وحسبما أشار في مذكراته، فقد بدأت مسيرته مع الكتابة منذ سن الثامنة عندما فشل في الحصول على توقيع لاعب البيسبول الشهير ويلي مايس، لأنه لم يكن يملك قلماً. 
منذ ذلك الحين، بدأ يحمل قلم رصاص في كل مكان يذهب إليه. حتى أنه كتب عن ذلك يقول: "إذا كان هناك قلم رصاص في جيبك، فهناك احتمال كبير أنك في يوم من الأيام ستشعر بالرغبة في البدء في استخدامه".
وعن تعلقه بالكتابة بالقلم، يضيف: "القلم هو أداة أكثر بدائية. تشعر أن الكلمات تخرج من جسدك، ثم تقوم بحفر تلك الكلمات على الصفحة. دائماً ما كانت الكتابة تتمتع بتلك الجودة الملموسة بالنسبة إلي. إنها تجربة حسيّة وجسدية".
شكّل أسلوب أوستر ما بعد الحداثي وحبكاته المفاجئة التي تتغير باستمرار، وموضوعات رواياته التي تمحورت حول الصدفة والقدر، عوامل رئيسة في شهرته وانتشار كتبه عالمياً. ولم يكن سراً، أن حياته شكلت مادة دسمة في كتاباته، وليس فقط في كتاب سيرته الذاتية.
بينما كان في الرابعة عشرة من عمره، وأثناء المشي لمسافات طويلة خلال معسكر صيفي، شهد أوستر على وفاة فتى على بعد بوصات منه بعدما أصابته صاعقة وأردته صريعاً على الفور. وهو الحدث الذي قال عنه إنه "غيّر حياته تماماً" وأنه كان يفكر فيه "كل يوم". لذلك، كان من المفهوم أن تكون "الصدفة" موضوعاً متكرراً في رواياته. وقد استعاد هذه الحادثة في روايته "4321" التي رشحت لجائزة البوكر لعام 2017، حين وقع غصن شجرة كبير على أحد أبطال رواياته بعدما ضربه البرق، فقتله على الفور.
 
 
 
محطته الباريسية
كان لبول أوستر مكانة خاصة في فرنسا. ومنذ أن انتقل من جامعة كولومبيا إلى باريس في أوائل السبعينات، لم يخف تأثره بحركة الروايات السوداء وبالجو الأدبي الباريسي العام، وقد بادله الفرنسيون المحبة والتقدير بعد سنوات لاحقة، فحققت كتبه انتشاراً واسعاً في باريس حتى أنها كانت تباع في السوبر ماركت لكثرة الطلب عليها. كان أوستر معروفاً في أوروبا أكثر من موطنه، حتى أنه اعتبر بمثابة نجم روك في باريس. 
في فرنسا، عاش مع صديقته، الكاتبة ليديا ديفيس، التي التقى بها أثناء وجوده في الجامعة. وفي عام 1974، عادا إلى الولايات المتحدة حيث تزوجا وأنجبا ابناً أسمياه دانيال في عام 1977، لكنهما انفصلا بعد فترة وجيزة.
في عام 1979، توفي والد أوستر، صموئيل، وأصبح هذا الحدث بمثابة البذرة لمذكراته التي صدرت بعنوان "اختراع العزلة" والتي نُشرت عام 1982. كشف أوستر فيها أن جده لأبيه قُتل بالرصاص على يد جدته، التي تمت تبرئتها لإصابتها بالجنون. 
أما انطلاقة أوستر الحقيقية فجاءت مع نشر روايته "مدينة الزجاج" عام 1985، وهي أول رواية في ثلاثية نيويورك. فيما الكتاب تحدث عن ألغاز وقصص غامضة ظاهرياً، وتطرق إلى محقق يصاب بمس من الجنون بعد مقاربته لقضية معقدة، إلا أن الكاتب طرح أسئلة وجودية حول الهوية. 
وعاد أوستر ليثبت نجاحه مع صدور الرواية الثانية في الثلاثية بعنوان "الأشباح" عام 1986، ومن ثم الرواية الثالثة بعنوان "الغرفة المغلقة" عن كاتب فقد القدرة على الابتكار.
 
 
كان أوستر ينشر بانتظام طوال الثمانينات والتسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث كتب أكثر من اثنتي عشرة رواية بما في ذلك قصر القمر (1989)، وموسيقى الفرصة (1990)، وكتاب الأوهام (2002)، وأوراكل نايت (2003). كما كتب سيناريو فيلم "دخان"، من إخراج واين وانغ، والذي فاز عنه بجائزة أفضل سيناريو في عام 1995.
في عام 1981، التقى أوستر بالكاتبة سيري هوستفيدت وتزوجا في العام التالي. وفي عام 1987 أنجبا ابنتهما صوفي التي أصبحت مغنية وممثلة. وفي رواية أوستر "ليفياثان" لعام 1992، والتي تدور حول رجل فجر نفسه عن طريق الخطأ، ظهرت شخصية تدعى إيريس فيغان، وهي بطلة رواية هوستفيدت الأولى "العمى".
في السنوات الأخيرة، تعرض أوستر لحدثين أثقلا صدره. ففي نيسان/ أبريل 2022، توفي نجله الأول دانيال بسبب جرعة زائدة من المخدرات. وفي آذار/ مارس 2023، كشفت هوستفيدت أن أوستر يعاني سرطان الرئة. لكنّ ذلك لم يمنعه من كتابة روايته الأخيرة، "بومغارتنر" التي تتحدث عن كاتبة أرملة في السبعين من عمرها.
وكان أوستر قد تحدث عن هذا الكتاب قائلاً: لعله آخر شيء سأكتبه.  إن كانت هذه هي النهاية، فإن الخروج من الحياة محاطاً بهذا الكم من اللطف الإنساني ككاتب ومن دائرة المقربين، لهو أمر يستحق العناء بالفعل".
 

اقرأ في النهار Premium