تناقض صارخ، ومفارقة صاعقة هي الظاهرة الجديدة التي أضحى العرب المسلمون والمسلمون عامة في فرنسا يمثلونها، وتلفت انتباه أكاديميين وعلماء اجتماع ودوائر إعلامية ومؤسسات معنيّة بالهجرة.
كيف تصبح فرنسا، أرضَ الحلم بالنسبة لملايين الأفارقة ومن الشرق، أيضاً، والبلد الذي من أجل الوصول إليه تغرق مراكب محمّلة بالمئات في عرض الأطلسي والمتوسط، ويُحجز الآلاف في مخيمات وخطوط بين الحدود في أوضاع لا إنسانية؛ هي ذاتها البلد الذي يعرف تحولاً نقيضاً وجذرياً، إذ شرع مئات بل آلاف من ذوي الأصول العربية والإسلامية يفضلون مغادرته، تركَه إلى بلدان أخرى، أو ما أسمّيه الهجرة المضادة.
هذا ما حدث فعلاً ويتنامى وإن في صمت، لا يكاد يُرى أو يُسمع عنه، في خضمّ الأحداث الاجتماعية والمعضلات الاقتصادية والتحولات الجيلية والأيديولوجية التي تعرفها فرنسا في السنوات الأخيرة، اهتزت معها بقوة مبادئ المساواة وقيم التسامح واستقبال الأجنبي وأرض اللجوء، وانتصر فيها التعصّب الوطنياتي مع تصاعد عالٍ لليمين المتطرف ونزعة عنصرية نبرتها ومظاهرها تعلو أكثر، لتدفع قسماً لا يستهان به من الفئة المذكورة إلى التخلي مكرهين أو راغبين عن بلد يقولون بالرغم من كلّ شيء إنهم يحبونه، فكيف ولماذا هذا الحب القاسي؟
في شهر نيسان/ أبريل 2012 قال الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي في إحدى خطبه السِّجالية وسط حشد من أنصاره من الحزب اليميني بصريح العبارة: "إذا كان هناك من تزعجه الإقامة في فرنسا ولا يحبها فليس عليه سوى مغادرتها". رنّت هذه العبارات بسخرية في آذان، وفي أخرى تركت صدى استفزاز بل وتحفيزاً للتفكير بجد ّفي ردّ فعل. منذئذ، وخصوصاً انطلاقاً من 2015، شهدت باريس وضاحيتها عمليات إرهابية خلفت 143 قتيلاً وعشرات الجرحى نفذها متطرفون وداعشيون، فساهمت في زيادة العداء للجاليات العربية والمسلمة، وأجّجت لدى طبقة سياسية مناهضة لسياسة الهجرة مشاعر غضب ترجمت إلى قوانين ومواقف اعتبرتها موجهةً ضدها أو تضعها في موقع شُبهة، أصبح عرب ومسلمون يرون أنفسهم متهمين أو مصدرَ خطر إرهابي، إلى أن يثبت العكس.
لقد عشت في هذا المناخ وعاينت وقائعه وآثاره يومياً، لكني هنا لست بصدد تسجيل انطباعات، إذ إن الحدث الصعب يحتاج إلى وقت وتبلور ورسوخ في الواقع والنفوس ليوجد ويُقيّم فعلاً، وهذا ما قام به أكاديميون وباحثون فرنسيون وأعدّوا عنه كتاباً صدر الأسبوع الماضي ومثار اهتمام بعنوان " La France ,tu l’aimes mais tu la quittes "(أن تحب فرنسا، وتتركها) عن دار لوسوي، بتحريرOlivier Esteves ,Alice Picard Julien Talpin وإسهام آخرين.
حمل الكتاب عنواناً فرعياً هو: "تحقيقٌ عن الشتات الفرنسي المسلم" استخدمت (شتات) كناية عن الذين يعيشون في أماكن متفرقة انتقلوا إليها أو هم بلا أرض كما أطلق على اليهود. العمل الذي بين أيدينا اعتمد، أولاً، إحصائيات ومعلومات موثقة من مصادر رسمية خضعت لمراجعات ومقارنات. وأُنجز، ثانياً، في شكل تحقيق (Enquête )سلسلة حوارات واستفسارات مع شرائح محددة ومختارة من العرب والمسلمين الفرنسيين، وللتدقيق فهؤلاء جميعاً، إما وُلدوا في فرنسا، أو مجنّسون، وعموماً فهم من أصول أجنبية، والأغلبية المعنيّة من بلدان المغرب العربي، أي ليسوا مقيمين أجانب أو التحقوا مهاجرين، هم من هنا وتعلموا ويعيشون ويعملون، ما يعطي للتحقيق ـ الدراسة فرادةً وأهمية استثنائية، وراهنيةَ حدث جديد في المجتمع الفرنسي.
ما القضية في الشكل؟ الشرائح المدروسة التي قامت بالهجرة المضادة معدل عمرها 35 عاماً. وهي متنوعة الأصول الجغرافية، مغاربية أغلبها وقليل مشرقية، تُصنّف في المجتمع مسلمةً بحكم أنها عربية تمارس دينياً أو لا، أنت بدون أي علامة دالة كالحجاب لدى المرأة ديانتك في سحنتك. وهي شرائح تنتمي غالبيتها إلى النخبة، ذات تكوين رفيع، وعالية التأهيل، عرفت تحسّناً وترقية في السلك الاجتماعي. تعمل في مؤسسات عمومية وقطاع خاص في مواقع مميزة، أي أنها ذات دخل جيد. وبحسب نظرية (هرم Maslow) عن تراتبية الحاجات لدى البشر تقع خارج مرتبة الافتقار إلى الفيزيولوجي المادي لها حوافز ومطالب أرقى، كالطمأنينة.
هؤلاء منذ ست سنوات واليوم يغادرون فرنسا بلدهم إلى آفاق أخرى تتوزع بين أوروبا الغربية: بلجيكا وإنكلترا، وأبعد إلى كندا، وإلى بلدان الخليج العربي الإمارات العربية المتحدة وقطر، وقلة يرجعون إلى بلدان آبائهم لكن للعمل والعيش في أوضاع مرفّهة، إلى المغرب والجزائر.
كيف يترك هؤلاء فرنسا أرض الحلم فيما يحصل آخرون على بطاقة الإقامة فيها بالملايين؛ ماذا حلّ بهم ليتركوا عيشة راضية ومجالاً اجتماعياً وثقافياً ولدوا وترعرعوا فيه ليقبلوا البداية من جديد؟ كيف يغامرون بقطع حبل السُّرّة مع تربة نشأوا فيها ولغتها لسانهم وعيشها عاداتهم، أضف يعلمون بأنهم ليسوا في عداد فصيلة الفرنسيين العاملين في الخارج(les expatriées) لسبب مالي محض لمُدَد محددة، أما هم فيتركون، يقولون إنه طلاق بائن مع بلاد الغال؟
هنا نصل إلى القضية في الجوهر، إلى الأسباب التي تجعل من يحبون فرنسا يغادرونها في الحقيقة على مضض. فما هو هذا المضض؟ ليس مادياً بتاتاً. إنه ذو طبيعة عقيدية وعرقية وسيكولوجية وسوسيولوجية.
في كتابهم (300 ص من القطع الكبير، وخمسة أقسام) يقدم لنا الدارسون صورة بانورامية ومفصلة أيضاً وبجداول وعينات إحصائية (1000 شخص و140 حواراً معمقاً) عن الطبيعة المتعددة المركبة، بقدر ما تكشف عن أزمات المغادرين تنبئ عن أزمات ناطقة وكامنة في المجتمع الفرنسي. لنبدأ بشعورهم، نظراً لأصولهم، أنهم عرضة باستمرار لأنواع من التمييز والدّونية في مناصبهم ومواقع العمل، قياساً بالفرنسيين الأصليين، مهما عملوا وتفوقوا فسقفُ ترقيهم يبقى محدوداً.
إنه تمييز عرقي مفضوح يصطدم به الذين واللواتي يطرقون أبواب العمل أو يبحثون عن تداريب، وكذلك عن سكن ملائم، يتلقون دائماً ردوداً سلبية بدالّة أسمائهم العربية، ما همّ إذا كانت القوانين تعاقب هذا السلوك، فإن بدّلوا الأسماء في الطلبات فُتحت أمامهم الأبواب مشرَعة. هذا يقود إلى أزمات فردية فادحة، الإحساس بالعزلة والإقصاء من تصرفات عامة، من كلمة عابرة في حديث، في العمل، نظرات في الشارع، أشياء من هذا القبيل تُرجع الشخص إلى أصوله التي لم يعرفها أو ظنّ أنها باتت وراءه، أوَليس فرنسيَّ المنشأ والتعليم، وكما تحب أيديولوجية الدولة، يؤمن بقيم الجمهورية ومتشبع بشعارها الثلاثي (حرية، مساواة، أخوة؟). هذه الأخوة، بالضبط، يفتقدها فتراه أخيراً وقد طفح الكيل يسعى للعثور عليها في بلدان أخرى، عجباً تستقبله فرنسياً هو من هجر فرنسا.
هناك فئة أخرى، وهي الأكثر تضرّراً والمرأة مركزها، إذ تحسّ أنها لا تستطيع ممارسة دينها على الوجه الكامل وتتعرض لمضايقات شخصية أو اجتماعية ورسمية شاملة.
إنها تتغاضى عن أساليب التمييز وعمّا يشبه السلوكَ العنصريَّ تجاهها، لكنها تصاب في الصميم بإحساس التضييق على معتقدها للصلاة في مساجد يُغلق القليل المتوفر منها، وفي أداء فريضة الصيام وسط مجال يتحفّظ ممن يختلف عنه، فيتكتّم الصائم أو يخادع يُخفي صيامه كجُرم أو سرقة، لهذا أمثلة بلا حصر. فما بالك بما تتعرض له النساء من جرّاء وضعهن للحجاب، وهذا تحوّل في فرنسا رسمياً وسياسياً لدى اليمين المتطرف وفي وسط المسلمين إلى أزمة مجتمعية ابتداءً من صدور القانون الذي يمنع ارتداء العلامات الدينية في الفضاءات العملية وانتهاءً أخيراً جداً بقرار وزارة التربية الوطنية منع دخول التلميذات المسلمات إلى المدارس بـ(العبايات)، وهو ما امتثل له قسم ويتمرد عليه قسم آخر. الحاصل، أن مرتديات الحجاب يعانين بسببه في أعمالهن وعلاقاتهن، وعند بعضهن يتضاعف الإحساس بالتمييز. هذا الشعور حقيقياً كان أو مضخّماً تحوّل عندهن إلى ما يشبه الاضطهاد الديني فقرّرن وأزواجهن البحث عن ملاذ.
بحسب الدارسين أصحاب التحقيق المستفيض، فإن حدث (طوفان الأقصى) وتبعاته ضاعف لدى العرب والمسلمين في فرنسا من الشعور بنقصان الأمان وتفاحش ظاهرة (رهاب الإسلام) l’Islamophobie وتصاعد النّعرة المتطرفة التي كان المتعصب إريك زمور قد غدّاها بقوة بترويجه لأطروحة ما سمّاه (الإبدال الكبير le grand déplacement) عنى بها وجود خطة ومؤامرة مدبرة ضد فرنسا وشعبها لإحلال المسلمين بدلهم. أضف إلى هذا السياسة المعادية لوزير التربية الوطنية الأسبق مشيل بلانكي الذي خلق سجالاً مفتعلاً حول ما اعتبره وجود تحالف يساري إسلاموي وصمه بأنه يهدد (العيش المشترك) في فرنسا.
لا يفوت بعد هذا الإشارة إلى قرارات حلّ وملاحقة جمعيات إسلامية، وقطع المساعدات العمومية عنها وإغلاق حساباتها البنكية، وفي آخر هذا المسلسل توجيه تهمة مديح الإرهاب لنائب برلماني لمناصرته القضية الفلسطينية في حدث ما.
هكذا وأمام المشاهد المروّعة في غزة، والاستنكار العالمي لما تعرض له الفلسطينيون من قتل ودمار، وجد كثير من العرب والمسلمين أنفسهم محبطين عاجزين أو متخوفين من التعبير عن تضامنهم واحتجاجهم يُخوَّنون بتهمة جاهزة (معاداة السامية) وتستعملهم أحزاب وقنوات إعلامية كبش فداء بتغويل الإسلام وترويع المسلمين. هذا كله وسواه ولّد ظاهرة الهجرة الصامتة المضادة ولا غرابة أن تستفحل مع الصعود المثير لليمين المتطرف ليس في فرنسا وحدها بل في أوروبا الغربية، ما أصبح يثير مخاوف ذوي الأصول العربية الإسلامية ويدفعهم للبحث عن ملاذات آمنة خاصة تجاه هذا الاستثناء الفرنسي.