"مهندس الكلمات"... لقبٌ رافق الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن، الذي رحل اليوم عن 75 عاماً بعد صراعٍ مع المرض.
وإذا تأمّلنا هذا اللقب نجده الأنسب للتعريف بالشاعر. كلمتان تختصران تجربته الابداعية كاملةً. إذا كانت الهندسة تعني الابتكار والتصميم و"الحرفنة"، فالشاعر الراحل هو مُهندسٌ قطعاً. كلمته ليست مجرّد أحرفٍ صُفّت بعضها بجانب بعضٍ. بل هي فضاءاتٍ لغويةٍ تتسّع لمعانٍ ومرادفاتٍ وأبعادٍ لا يُشكّلها سوى مهندسٍ محترفٍ ومتقنٍ لعمله.
أمّا الابتكار فهي سمةٌ امتازت بها أشعاره التي تنوعت في مضامينها بين الغزل والحب والوطن والعروبة. ولعلّ أهم خصائصه الشعرية هي في ابتكاره مفرداتٍ ينهلها من اللغة الشائعة ليُحمّلها معانٍ فلسفيةٍ مُدهشة.
وإذا قرأنا واحدة من قصائده الشهيرة "أغصان المساويك" على سبيل المثال، نجد في محادثة الشاعر مع تلك البائعة العجوز حواراً فلسفياً عن الحياة والعمر وقلق الانسان وحيرته.
اختار الشاعر الأمير كلماته من خزّان الواقع ثمّ عرف كيف يُنقّيها ويُصفيها لتغدو أكثر أناقةً وسلاسة. ولامست قصائده النخبة كما أحبّها الناس العاديون. ورغم ثقل معانيها، بدت أشعاره مغناطيساً جذبت العامّة اليها فارتقت بهم الى مستوى أرفع.
وإذا سألنا عن السرّ فلأنها تُشبهه. وهذا ما يقوله الشاعر نفسه حين كان يُسأل عن ذاته، فيجيب "في شعري الكثير مني". ولهذا نراها ثقيلة، راقية وفي الوقت عينه واضحة ومنسابة.
وهذا ما جعلها مُناسبة جداً للغناء، فقدّمها أهمّ المطربين بأصواتهم من طلال المداح ومحمد عبده وعبدالرب ادريس الى راشد الماجد وكاظم الساهر وأصالة.
وإذا كانت الاغنية الخليجية قد امتازت بمضامينها الشعرية الراقية، فإنّ الشاعر الراحل قد لعب دورا مهما في ذلك. ومن أشهرها نذكر: "ليلة لو باقي ليلة" لعبدالرب ادريس والمسافر" لراشد الماجد و"وحدك لي" لعبدالله الرويشد وغيرها الكثير.
وله ايضا عدد من الاعمال الوطنية المهمة التي قدمها للسعودية مثل "فوق هام السحب" و"صرخة" وأوبريت مهرجان الجنادرية"...
جمعته بالامارات علاقة خاصة ايضا، فكتب عنها أجمل الأشعار مثل قصيدة "1000 حب" في ذكرى اليوم الوطني الـ45 للدولة ليحكي من خلالها علاقة الحب المتبادل بين الشعبين السعودي والاماراتي، ويقول مطلعها: "كل حرف كتبته له سبب/ وحرفي اليوم هيضه الغرام/ للإمارات مني ألف حب/ وألف شوق وتحية واحترام/ عيدها اليوم عيد العرب/ وعيد للمملكة ما به كلام/ سبعة سيوف تفخر بالنسب/ عزها الله في حرب وسلام".
منذ الطفولة، انفتح الشاعر الأمير على العالم الأرحب، عبر القراءة أولاً والسفر ثانيةً.
صغيراً، تعرّف الى مكتبة والده الأمير عبدالمحسن بن عبدالعزيز آل سعود، وهو المحبّ للعلم والأدب. فكانت القراءة منفذه الأول قبل أن يُسافر صغيراً الى الاسكندرية ليكمل تعليمه في مدرسة "فيكتوريا كوليدج" التي تخرّج منها الملك حسين وادوارد سعيد ويوسف شاهين وعمر الشريف ونخبة من القيادين والمبدعين العرب.
ذاك الانفصال المبكر عن الوطن والعائلة جعله يُدرك صغيراً معنى تبدّل المشاعر وهو الذي اعترف في أحد حواراته أنّ السنة الأولى في تلك المدرسة الداخلية العريقة كانت صعبة قبل أن تتغير الأمور لاحقا وتتسهّل.
ولعلّ هذه المواجهة المبكرة مع المشاعر جعلته أكثر حساسية ورقّة، ما انعكس على شعره النابض دوماً بالأحاسيس الانسانية العميقة.
قبل رحيله بأيام، كتب منشورا على صفحته في منصة X قال فيها: "الناس ما همّها ظروفك/ كود الذي يحزن لغمّك/ وإن شلت حملك على كتوفك/ بتموت ما أحدٍ ترى يمّك"...
جاء المنشور بطعمٍ وداعيّ استعاده محبّو الشاعر اليوم بعد خبر وفاته الذي أحزن كلّ قرائه ممّن عاشوا على وقع كلماته البديعة خلال مسيرة شعرية طويلة.